كتاب لا يكفي أن تقرأه مرة واحدة فقط



بداية سينساب الكتاب بين يديك كالماء فلن تشعر بمرور الصفحات إلى أن ينتهي
ثم تمر بحالة فريدة هي خليط من النشوة والذهول فتجد نفسك مندفعا نحو قراءته مرة أخرى بلا وعي منك
فالكتاب وجبة دسمة للغاية بالرغم من سهولة اسلوبه وسلاسته فإنه على قدر من الخطورة تجبرك أن تعيد قراءته حتى تعي ما فيه
كتابنا أيضا صريح كالمرآة
نعم مرآة
انت لم تخطئ قراءتها وأنا قطعا لم أضع علامة تمديد بطريق الخطأ مكان همزة قطع فهذه أمور حساسة لا تحتمل الأخطاء
كتابنا بالفعل مرآة مستوية ملتزمة بقوانين البصريات الفيزيائية تعكس صورة تقديرية معتدلة مساوية للحجم الطبيعي
بل أنه تخطى قوانين الطبيعة وقدم لوحة تحمل بصمات تأثيرية تكشف عن طريق الظل والفراغ ما وراء الصورة
حتى انه لن يعطيك المجال ان تتنصل من واقع مجتمعك القبيح وتتهم المرآة بالقبح و . . .
انا تقريبا أقفز للنتائج دون ان أعطيك المقدمات
دعنا نبدأ بداية كلاسيكية أخرى

ها أنا ذا أعود لأملأ رؤوسكم بكلام لا أول له ولا آخر عن كتب أثرت في نفسي فدفعتني للكتابة
وأنتم لحسن حظي مازلتم تستمعون
كتابنا اليوم تملكتني رهبة بمجرد سماع اسم كاتبه مقترنا بعنوان الكتاب
عندما تلقيت دعوة بمطالعة كتاب للدكتور جلال أمين فأدركت ان الكتاب إصطبغ بصبغة الصراحة كعادته
فإذا كان عنوان الكتاب هو " ماذا حدث للمصريين "
فأنت تدرك خطورة الصراحة في هذا الموضوع
انه كمن اقترب حسابه وهو يعلم ما جنته يداه
بداية الدكتور جلال أمين هو أحد علماء الإقتصاد المصريين ومفكر كبير له ثقل بين الكتاب ويمكنك أن تستقي حصيلة لغوية لابأس بها من قراءة مؤلفاته في علم الإقتصاد ولديه أسلوب سهل وشيق في عرض معلوماته تجعلك تهيم عشقا بكتبه حتى وإن كانت في موضوع لايهمك أن تعرف عنه
الكتاب عبارة عن مقالات كانت تنشر مسلسلة في مجلة الهلال وتم جمعها في كتاب واحد في 188 صفحة وأعيد طباعته على مدى عشر سنوات
وهو أحد أكثر اكتب مبيعا لعام 2008

الكتاب هو محاولة من المؤلف لرصد أسباب ماوصل إليه المصريون في الخمسين عام الماضية
الكاتب بكل بساطة يتهم الحراك الإجتماعي وما أدى إليه من إستعلاء طبقي
وفند ذلك على إمتداد صفحات الكتاب
ببساطة وحسب وصف المؤلف تخيل أن هناك عمارة متعددة الطوابق قرر ساكنواها أن يتبادلوا الطوابق في وقت واحد
وأخذ كل منهم محتويات طابقه وصعد أو نزل وتقابل الجميع على السلم
فما رأيك
هذا تقريبا ماحدث للمصريين
وله حيثيات عرضها المؤلف في فصول مستقلة
ماذا حدث للمصريين
سؤال يسأله كل المتابعين عن كثب
علماء الإقتصاد يشكون من الإقبال على السلع الترفيهية وإستيراد الغذاء
علماء الإجتماع يشكون ضياع القيم وتفكك المجتمع وإنتشار الجريمة ودخول مفاهيم وألفاظ غير معهودة
السياسيون يشكون ضعف الإنتماء والإنشغال بقضايا فرعية على حساب القضايا المصيرية
حتى المثقفون يشكون تدني مستوى الفكر والثقافة وهبوط الذوق العام
فما السبب

- الهجرة والإنفتاح
بداية يوضح الدكتور جلال ان السياسة الناصرية سحبت البساط من تحت ارجل أصحاب المصالح بقوانين التأميم والإصلاح ومجانية التعليم وتعيين الخريجين
لمصلحة أصحاب المهن مما أدى إلى ترقيهم إجتماعيا
ثم جاء السادات بعصر الإنفتاح وهدم كل ذلك
يجري الكاتب مقارنة سريعة بين العصرين
فيقول عبد الناصر كان يرى أن الحرية هي حرية الحصول على رغيف الخبز
السادات كان يرى أن الحرية هي حرية الترقي
عبد الناصر كان يسعى للإستقلال عن الغرب وبناء إقتصاد قوي
السادات كان منبهرا بكل ماهو غربي حتى أنه كان يعبر عن نفسه بالإنجليزية وكان يشجع جلب أي تفاصيل من الخارج حتى ان كانت شكلية

يوضح المؤلف أن القوى الخارجية لم تكن لتسيطر على المجتمع من دون تحالفها مع قوى داخلية فكان للإستعمار أعوانه من الطبقة الارستقراطية والتي لم تجمعهم به مصالح إقتصادية فحسب بل شعروا نحوه بالولاء
فجاء عبدالناصر بسياسته وسحب البساط من تحت أرجلهم لمصلحة فئة جديدة تتفق ميولها النفسية مع هذا الإستقلال
حتى جاء السادات بسياسة الإنفتاح وهدم كل ذلك فتحالفت معه القوى المتضررة من السياسة الناصرية ورأوا أن الإنفتاح والإستدانة من الغرب نوع من الشطارة
مما أدى إلى حدوث حالة من الهرجلة في المجتمع المصري في هذه الحقبة ألقت بظلالها في السنين التالية
المثل الإنجليزي يقول أنه من الممكن أن تقود الحصان إلى النهر لكنك حتما لن تجبره على الشرب
وبناء عليه فأنت لن تلوم السياسات فقط
المصري مسؤل حتما عن إختياراته
فالإنفتاح موجود في دول مثل الصين لكن المصري عمد إلى تقليد النمط الإستهلاكي للأعلى دخلا وإقتناء كماليات تشير إلى إنتمائه لطبقة غير طبقته كالسيارة والفيديو على حساب السلع الأساسية
وانتشر الإستثمار في مجال العقارات والمياه الغازية والبنبون واللبان والأشياء التافهة على حساب الغذاء والكساء

أما الجزء الآخر المتعلق بالهجرة فهو يرجع للسياسة الإنفتاحية في عهد السادات
بداية ذكر المؤلف أن المصريين شعب غير مهاجر بطبعه
وكانت الهجرة مقصورة على المهندسين والمدرسين والأطباء
حتى عام 1974 حيث بدأت فئات أخرى في الهجرة مثل الحرفيين وعمال البناء بحثا عن مستوى معيشي أفضل
وبعثوا بتحويلاتهم النقدية إلى ذويهم مما أدى لترقيهم إجتماعيا
وساهمت تلك الأموال مع عائدات القناة والإستثمارات الكبرى
في زيادة معدل التضخم مع عجز الحكومة عن توليد إيرادات توازي تلك الأموال بزيادة الناتج المحلي
يعني من الآخر ناس طالعة وناس نازلة وحاجات كتير بتضيع في النص
إزاي ؟
أقولك أنا . . .
أدى التسابق العشوائي نحو الترقي إجتماعيا إلى إعلاء قيم الشطارة والكسب السريع وإنتهاز الفرص وإهمال قيم سامية مثل العمل والكفاح والإجتهاد وإحترام الكلمة وأصبح التمسك بتلك الأشياء نوع من العاطفية الزائدة التي لا تليق بمواطن يرتقي إجتماعيا
ثم بعد ذلك شاع إستخدام ألفاظ وتعبيرات جديدة تعبر عن القيم الجديدة مثل طنش وفوت ومشي أمورك و . . . إلى آخره
ثم ساد إقحام الإنجليزية بشكل مستفز كنوع من التقديس لكل ماهو غربي

- الدراما
وكان الموضوع المحبب للدراما هو أن الفقر ليس عيبا وأن الشخص الفقير لن يصبح غنيا إلا بالصدفة أو بميراث أو بطاقية الإخفا أو بالزواج من أسرة غنية حتى يرى ماجلبه المال من تعاسة وشقاء فيتركه ويعود لفقره حامدا ربه عليه
أما اليوم فأصبحت الأعمال الناجحة تسخر من الطبقات العليا الآخذة في الهبوط والإعلاء من قيمة الثراء ولاتتحدث عن فضائل الفقر .
( واخد بالك انت من اللي بيحصل
طيب شوف بقى اللي جاية دي )
- تفسيرات لاعقلانية للدين
أدى إستنزاف موارد الدولة بعد سنوات الحرب وتوقف عجلة الإنتاج وغلق قناة السويس وضياع مصادر البترول في سيناء وقلة الإستثمار
إلى الإتجاه لطرق جديدة للكسب مثل المضاربة والوساطة والتجارة وتولد ظاهرة شركات توظيف الأموال
وظهور تفسيرات غير عقلانية للدين مثل أن إيداع الأموال بالبنوك أشد مقتا عند الله من فعل الزنا في أشد الأماكن طهرا
وسيب فلوسك مع الحاج وربنا هايباركلك فيهم
ولم تفلح أي محاولة لمنع الناس عن إستثمار أموالهم وضاع صوت العقل وسط هذه الغوغاء
ثم تسمية الرشاوي التي توزع على المسؤلين الكبار بكشوف البركة .

الفصول التالية تتحدث عن تدهور حالة السنيما لتواكب الذوق العام والتركيبة النفسية للمشاهدين
وتطور علاقة الأسياد والخدم
وظاهرة التسول والتسول المقنع بظهور باعة يبيعون أشياء تافهة على قارعة الطريق وفي المواصلات العامة
والمقارنة بين دور المرأة في الماضي والحاضر
الكتاب تحفة فنية وصدوره عيد ثقافي
ومحاولة تلخيصه جريمة حقيقية
نصيحة لو وجدته في أي مكان فلا تتردد في إقتناء نسخة منه .


إهداء إلى صاحبة الإقتراح
د . ريهام مبارك

أحمد حلمي
البحيرة
30-3-2012

0 التعليقات:

إرسال تعليق