0 التعليقات

تاريخ على ضوء القناديل المتراقص

لماذا الأدب ؟
السؤال الذي اطلقه الاديب البيروفي ماريو فرجاس يوسا بعد حصوله على جائزة نوبل في العام 2010 وحاول الاجابة عنه في مقال بديع لايمكن مقاومة فتنته ,
أذكر منه بيت القصيدة الذي يستحق وضعه داخل إطار ذهبي
" إن مجتمع لا يقرأ أو مجتمع يرمي بالادب في سلة النقائص او الكماليات هو مجتمع همجي الروح ويخاطر بحريته كذلك ,
ﻻ‌ﺷﻲﺀ ﻳﺤﻤﻲ ﺍﻹ‌ﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﻏﺒﺎﺀ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍﻟﺘﻌﺼﺐ ﻭﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻟﻘﻮﻣﻲ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻓﻲ ﺍﻷ‌ﺩﺏ ﺍﻟﻌﻈﻴم , انني اشعر بالشفقة تجاه أولئك الذين يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا الا يقرأوا , هم فقط لا تفوتهم المتعة التي تسببها القراءة فحسب لكنهم لايدركون أن الحياة الواقعية هي آخر ما يُكتشف ويُنور وان الحياة الوحيدة التي يمكن ان تعاش بكاملها هي التي يحيكها ويحكيها الأدب
"
هنا ينتهي كلام يوسا ,
لكن ابراهيم نصر الله - الذي يرى أن كل كتابة هي بمثابة معارضة للواقع حتى عندما نكتب قصيدة حب فإننا بذلك لانقيم وزنا لأي قوانين مجتمعية , لأننا إن أحببنا على طريقتنا فإننا نخالف ما يريدون لنا أن نكون عليه , نعارض أولئك الذين يحمون قتلة الحب بقوانينهم - انار لنا دربا اولى بالمسير , يقول :
" نكتب لأن حكايانا إن لم ندونها صارت ملكا لأعدائنا "
هذا ما جال بخاطري عندما قرأت روايته " قناديل ملك الجليل " الصادرة في العام 2012 .
ولأن ملك الجليل هذا كان مجهولا تماما بالنسبة لي - على عظم مكانته وحجمه - فإن حكايانا كانت ملكا لأعدائنا حتى بعد تدوينها .
واخيرا , هناك سبب ما يدفعني كل مرة ان أبدأ حكاياتي من المنتصف لابد وأن أعرف ماهيته أو أن أكف عن ذلك .
لنحكي من البداية اذا .
********************
ابراهيم نصر الله المولود في عَمّان - لأبوين فلسطينيين أُقتُلِعا من ارضهما ( قرية قرب القدس ) بعد نكسة 1948- بدأ مشروعه الادبي كشاعر تُمنع دواوينه من النشر ثم يفرج عنها مرارا دون اثر يذكر , لكن التحول الاكبر في حياته الادبية كان مع صدور روايته "براري الحمى" في مطلع الثمانينات والتي تم اختيارها كواحدة من أهم عشر أعمال روائية تتناول الوطن العربي من الداخل بحسب مجلة الجارديان البريطانية , لكن مشروعه الأكبر والذي لم يتخيل هو ذاته ما سيؤول اليه كان عندما بدأ في منتصف الثمانينات في تدوين التاريخ الفلسطيني الحديث تحت عنوان " الملهاة الفلسطينية "
بصدور روايته الثامنة في هذه السلسلة " قناديل ملك الجليل " فإن الملهاة الفلسطينية تغطي ما يقرب من 250 عام من تاريخ فلسطين بدءا من نهاية القرن السابع عشر ابان الحكم العثماني وحتى الانتفاضة الثانية .
الرواية محل حديثنا اليوم ملحمة تاريخية تحكي بحسب تقديم نصرالله ذاته لروايته عن رجل افنى عمره في انبل هدف يمكن لرجل أن يسعى لتحقيقه , انه بناء وطن مستقل , بمجرد قراءة الجملة السابقة تداعت كل بقايا التاريخ في ذهني وانهارت وجرفت كل شيء في طريقها تاركة اسماء فقط , سيل من الاسماء , احاول بلا جدوى ان استدعي ذلك العظيم الذي - لابد - وانه في منزلة صلاح الدين وشهرته مثلا , لكن المفاجأة كانت في السطر التالي ان الشيخ ظاهر العُمَر الزيداني مجهول تماما ولم يمر اسمه امامي من قبل ولو على سبيل الصدفة , والحقيقة ان الحسرة ظلت تتنامى على طول الرواية كلما تزايدت عظمة انجازاته .
****************
إن كنت ستقرأ الملهاة فالبداية من هنا ,
لكن ما لفت نظري حقا هو كيف كتبت ملحمة روائية تاريخية عظيمة كتلك بعد عمل عظيم مثل " زمن الخيول البيضاء " , بل مايثير دهشتي حقا , كيف يكتب من الأساس , زمن الخيول البيضاء من الأعمال التي يوضع القلم بجورها فلا يرفع مجددا , لكن التجربة هنا مدهشة خاصة لو علمت أنه كتب ولا حائط في ظهره , لا شيء على الاطلاق ,
كل ما هنالك مجرد وريقات متناثرة عن ذلك الرجل الغامض عظيم الاثر , كأن التاريخ تواطأ ليمحو خطاه ويهدم شاهد قبره ويسويه بالارض .
ولأن البطولات كشمس الضحى لا تستطيع مواراتها مهما بالغت في ذلك فالشيخ ظاهر الذي تحدى الدولة العثمانية ووزراءها لما يقرب من سبعين عاما لم تمت بطولاته .
لكن الشيخ ظاهر له رأي آخر فيما يخص البطولات , يقول : إن اسوأ فكرة خطرت للانسان هي ان يخوض حربا كي يصبح بطلا , بإمكان الانسان ان يصبح بطلا في ألف ميدان آخر لكن ليس ف الحرب , هذه الحرب فرضت علينا لا لنخرج منها ابطالا انما لنخرج منها بشرا .
حين ننهي حصارنا ونبني مدننا بأمان سيصير كل منا بطلا حقيقيا .
*********************
في ٥٥٥ صفحة يختلط الروائي بالمؤرخ في هذه الرائعة ,لو انك لا تعرف ان ابراهيم نصر الله لم تطأ قدماه ارض فلسطين قط , لو انك لاتعرف انه ابن مخيم الوحدات الاردنية لظننت انه لازم الشيخ ظاهر في كل غزواته ,
وريقات قليلة حولها الروائي القدير الى صفحات من التاريخ ربما يظن التاريخ ذاته انها سقطت منه سهوا ,
كيف نسج ابراهيم نصرالله كل تلك الشخصيات والاحداث والوقائع والاماكن حول لاشيء تقريبا ,
ليس هذا فحسب , بل كيف اقنعك بها ,
هناك كاميرا صغيرة محمولة بيد راوِِ لا تشعر بوجوده قط يتنقل بين المكان والزمان ايضا ,
هو لا يحكي , هو يرى لك , انت في قلب المكان , ترى وتسمع ,
بعد ان تنتهي الرواية تصبح فلسطين ومدنها وقراها واناسها واسواقها ومزارعها وبساتينها تتشرب كل خلاياك ,
صف لي بعد ان تغلق الرواية كيف انك لم تذهب الى طبرية ؟
وأي طبرية
لماذا تدمع عيني الآن مع ذكر طبرية ؟!
ربما لأنني تذكرت ليلة ميلاد ظاهر ,
لماذا تتبعثر خيوط الحكاية مني كلما حاولت لملمتها ؟
لنحكي من البداية مرة أخرى .
****************
هناك مشهد فنتازي في بداية الرواية ستبتلعه لأنك تريده ان يسير بذات الطريقة ,
المؤلف يعرف ان التاريخ المسطح الممل مصقول الحواف لابد وأن يتحول لشيء حاد لايكتب على الورق فقط بل يحفر في الصخر كذلك , لذا تحولت كل شخصياته واحداثه ووقائعه لذات الاشياء الحادة التي تفسح لنفسها عنوة مكانا داخل الزمان والمكان , لذا تجد الشيخ عمر الزيداني شاهرا سيفه يحارب الموت الذي لا يراه حتى يبعده عن ولده الذي التقى بأمه كي يتم وداعها في لحظة ميلاده ,
يصرخ الشيخ في الموت الذي يعرف انه لم يغادر الدار بعد وهو يوجه طعنة للفراغ : اخرج يا جبان وواجهني حتى تكل ذراعاه العاريتان ويغرس سيفه في الارض امامه ويجلس واضعا رأسه بين كفيه .
ثم يستدعي نصرالله الاسطورة للواقع لتقتنع تماما ان ظاهر رضع من لبن الجياد لينجو من الموت , مع كل ما تصبغه الاسطورة من صبغات على حياته وكل ما تلقيه من خلفيات قبل حتى ان تطأ قدمه ارض المعارك .
مستقبلا سيقول ظاهر ان حليمة الفرس الاصيلة هي أمه , فيما بعد سيغير ظاهر على قبيلة ليسترد فرسا سلب منه لأنها اخته في الرضاعة .
ظاهر الذي كان يعرف انه جاء لهدف ما اكبر من ان يعيش حياة عادية القته لعبة القناديل في معمعة بناء الاوطان مصادفة , لكن الاقدار لا تتبع الصدف ابدا ,
من قال ان الاوطان الحرة تبنى بالصدف او بالنوايا الحسنة .
هو يلخص الامر ببساطة فيقول
لا تحدثني عن ايمانك
حدثني ماذا تفعل به
*****************
لن أحكي لكم عن عذوبة اللغة , لكن يكفي أن يكتب شاعر رواية من خمسمائة صفحة , ماذا تتوقعون اذا ,
هناك كل شيء بمقدار , ليس هناك لفظا ذو ايحاء زائد أو معنى نقصه اللفظ قدره ,
هذا بالاضافة للموسيقى الخفية التي لايمكن اغفالها بين السطور , انت تتمايل طربا مع كل سطر .
اللغة هنا تكمل الصورة , لايمكن ان تصف كل هذا الجمال , كل هذه الروعة , كل هذا التاريخ لايكتب بحروف عادية ,
حتى التراب هناك كان يقطر حكمة ,
ابراهيم نصرالله كان يدرك جيدا كيف يشيد دعائم التاريخ العظيم فلا ينهار ابدا مهما قلبت صفحاته , لذا كان يفعل هذا بكل كيانه , فانتقل لكل كيانك .
************************
" هناك قناديل ياشيخ لا تطفأ وقنديلك منها , بعد كل ما فعلته اتراك تعتقد ان احدا يستطيع اطفاء قنديلك , انت كل هؤلاء , صحيح ان لا احد يجرؤ اليوم على الجلوس لتدوين ما فعلته لانهم يخافون الدولة التي لا تخاف شيئا اكثر من الحبر لكن بعد عام او عشرة او خمسين سيتغير كل هذا ويتقد قنديلك وتتقد كل القناديل التي اطفأت دفعة واحدة ياشيخ "
كانت اللعبة التي ارتضوها حكما من البداية بعد موت الشيخ عمر هي ان يجلس الاربعة ابناء قبالة قناديلهم المشتعلة حتى ينطفئ احدها فيكون صاحبه صاحب العمر الاقصر هو من سيخلف والده ويرث المخاطر ,
وحملها ظاهر صاحب الستة عشر عاما فصار الشيخ ظاهر .
بعد اعوام قليلة صارت طبرية قلعة منيعة تستعصي على وزراء الدولة العثمانية وظلت القناديل تحكم كل ردود الافعال فيما بعد .
*******************
حينما قال له ولده متى ستموت يا ابي حتى اصبح متسلما مثلك كان يعرف ان ايامه القادمة لن تكون مشرقة كما تمنى , بعد أعوام عندما صارت حدود دولة ظاهر تضم معظم بلدان فلسطين وساحل الشام وقناديله تضيء قلوب المدن وقلوب اعداءه رعبا كان ابناءه يطالبون بأن تقسم البلاد عليهم , فما كان منه الا ان قال لهم ومتى ملكت حياة الناس حتى اقسمها عليكم , ما ثبت بالوثائق ان ظاهر الذي عاش لما بعد الثمانين وعاشت دولته مايقرب من ستين عاما هدم حلمه بخيانة اقرب اقرباءه .
لكن قناديله بقيت عبر الزمان والمكان تضيء الطريق وتقول كيف ضاع كل شيء , تقول من اين اتت الطعنات ,
الرواية ملحمة تاريخية بالغة الرقي لا يخرج منها قارئها كما دخلها ابدا , هناك اشياء كثيرة تبدلت ايسرها تضاريس التاريخ التي غفلت عنه طويلا ,
احب ان اختم بمقطع آخر من مقال يوسا العظيم لأنه يقول ما أود ان اقوله تماما :
"هذا الرابط الأخوي الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك وبالتالي فهو يمحي الحواجز التاريخية .
الادب ينقلنا الى الماضي , الى من كان في العصور الماضية قد خطط , استمتع , وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا . تلك النصوص التي تجعلنا ايضا نستمتع ونحلم , الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو اعظم انجاز للثقافة ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل الا الادب "
هل سيسأل احدكم عن ماهية الادب مجددا او يراه رفاهية ؟
لا اظن
دمتم في حفظ الله
أحمد حلمي
البحيرة
الاول من سبتمبر 2015

0 التعليقات

أغاني الساحل الكاريبي



حسنا , سنحكي عن ماركيز العظيم ,
في زيارتي الثانية له والتي لم تكن لرائعته التي لفتت الانتباه لأدب اللاتينيين ككل - لأن اوانها لم يحن بعد - أصابني الارتباك , وعلى طول صفحات الرواية كان يتردد في ذهني ذات السؤال : ما هذا الذي يفعله ماركيز بفن ينتمي تاريخيا للروس ؟ ,


جابرييل جارسيا ماركيز المولود في كولومبيا في العام 1928 والحاصل على جائزة نوبل في الادب في العام 1982 بدأ حياته كصحفي مغمور ثم كروائي فاشل - جماهيريا - فروايتيه " عاصفة الاوراق " و " ليس للكولونيل من يكاتبه " لم تجدا - تقريبا - من يبتاعهما , افلس تماما واضطر لان يبيع اثاث بيته ليشتري اوراقا ليكتب ما سيجذب انظار العالم اجمع نحو ارض جديدة من الادب لم تطأها اقدام من قبل , ذلك انه في العام 1967 كان أمام اهم حدث سيغير حياته للابد , عندما صدرت روايته ذائعة الصيت " مائة عام من العزلة " , وكان وقتها يعيش في مكسيكو سيتي ولا يجد ثمن تذكرة العودة لوطنه لكن عمله الدؤوب طيلة ثمانية عشر شهرا بلا توقف تكفلوا بإعادته للحياة , في العام التالي ولمدة سبعة اعوام عكف على كتابة روايته الاقل شهرة من سابقتها وان كانت كما يراها هو اعلى قيمة غير انها ليست رواية شعبية , يقول ماركيز عن روايته التي مُنعت من النشر في معظم ممالك امريكا اللاتينية كإجراء احترازي ثم افرج عنها بلا سبب سوى انهم لم يروا مبررا لاثارة بلبلة دون داع , رغم انه كان هناك داع كبير , انه كان يكتب خمس سطور في يوم كامل ثم يرسلهم لسلة المهملات في اليوم التالي وانها جديرة بأكثر مما نالته " مائة عام من العزلة " لكنه كان يعرف انها ليست رواية جماهيرية فلن تنال ولو نصف ماتستحقه , نحكي هنا عن رواية " خريف البطريرك " الصادرة في العام 1975 .




لكنه كان لابد ان نعرف كيف بدأ كل شيء اولا ,


بداية نحن بصدد رواية غنائية , والمصطلح دقيق تماما وغير مجازي بالمرة ,


وفي ذلك الوقت - وقت كتابة الرواية - لا تُسمع اغان قط في الساحل الكاريبي , وانما يُسمع صوت الرصاص , صوت الجوع , صوت المؤامرات , صوت الخيانة , صوت الانقلابات , صوت المذابح , صوت الدكتاتوريات , صوت الظلم , وصوت الكاريبي الذي لا يعجبه كل ذاك فيرحل تاركا اياهم , لكن ماركيز عمد لعزف سيمفونية تأخذ الانفاس من كل هؤلاء ,
الرواية تدور في زمن غير معروف لكنه مغلق بطريقة تجعلك تدور بين جنباتها تجمع التفاصيل لتعيد ترتيب المشاهد لتصل لصورة كاملة للأحداث , وهذا اصعب ما فيها , ان كنت تجد الزمن هو البطل في " مائة عام من العزلة " فالزمن هنا هو الشخص غير المرئي الذي تنسب له كل احداث الرواية وتقلباتها وصعودها وهبوطها دون ان يبدي طرف ثوبه , حتى لتشعر أنها آنية الحدوث , لا لا انها ابدية , ازلية , لم تتجاوز ذات المشهد أم انها تحكي مايزيد عن قرنين ?!
شيء يبعث على الارتباك حقا لكنه ممتع بشكل ما ,
يا أمي بنثديون الفريدو يا ام روحي ما هذا الذي يحدث في مملكة سأمي الشاسعة لماذا كُتب علي انا ان ابقى خالدا وسط كل هؤلاء الحمقى الفانين , لماذا لا تحل لعنتك عليهم فيقاسمونني ما انا فيه من شقاء , لماذا اظل انا هنا حتى يمر النجم المذنب مرتين , لا لا بل ثلاثة , ثلاث مرات , يا اماه لقد كفت طيور الكاريبي الحزينة عن الغناء رغم اني اسقيها عسلا كل يوم , في حين ان صوت صياحها كان يمنع موظفي الديوان من سماع بعضهم البعض , فكان يغطيها كل يوم ويحمل المصباح , يطمئن على البقرات في الحظيرة , يصعد الى غرفته , يغلق الرتاجات الثلاثة والمزاليج الثلاثة والدعامات الثلاثة ويعلق مصباحه فوق الباب لينام ببدلته الكتانية ونجماته ونياشينه ومهمازه الذهبي على الارض بجوار مكتبه واضعا ذراعه اليمنى تحت رأسه كوسادة فينام العالم كله ويكف الكون عن الدوران .




ما حدث في الفقرة السابقة هو مجرد محاكاة لما فعله ماركيز بروايته المعجزة التي تنامت خيوط روعتها لتصل للقارئ عبر - حتى - الترجمات المختلفة , قرأت نسخة منقولة من الفرنسية عن الاسبانية فإذا بي اتساءل : ترى كيف كان النص الاصلي ؟




ماركيز في روايته التي تحكي عن ميراث الدكتاتوريات اللاتينية في مايقرب من 300 صفحة جاعلا إياها لا نهائية الصفحات تصلح لان تُقرأ من اي نقطة , عدد الصفحات المحدود كان يتمدد بشكل ملحوظ بين التفاصيل الكثيرة ليستوعب زمنا لانهائي , يسير بين ردهات عقل جنرال ذو نفوذ ابدي يرى العالم من منظوره , يتلمس ذكرياته , يرويها , يصورها من الخارج , يهبط في إحداها يحكي سنوات حدوثها بالتفصيل - نعم سنوات - تتباعد الاشياء , يلتقط الحدث احد العابرين ليكمله ثم يسلمه لآخر ثم يروي الحدث نفسه بنفسه , ثم يعود الحكي لفم الجنرال مرة اخرى , لا بل يعود لعينيه , تحكي لنا عينيه كل ما يختلج في نفسه , فماركيز لايدع شخوصه تحكي ابدا , هم لا يقولون , وانما يرون وانت ترى بعيونهم .




اماه بنثديون الفريدو يا ام موتي , هل يدرك هؤلاء الحمقى الذين يطالبونني بتسمية من يخلفني انني حقا لا اموت , لقد قلت لهم انني سأموت لثلاثة ايام فقط ثم اعود لأعدم كل هؤلاء الخونة الذين رقصوا فوق جثتي فرحا ولسوف تتحول اجراس الاحتفال بموتي لاجراس احتفال بعودتي .

******


في بداية روايته الممتعة حد الايلام يُعرف ماركيز الدكتاتوريات والظلم والاستعباد عن طريق عرض افكار البسطاء الساذجة عن حاكمهم , يقول ببساطة - دون ان يقول - ان الاستعباد هو ارث للعقول وليس للاجساد ,
انظروا معي :


هل كان هناك يوما , نحن لانعرف يقينا , لكن عندما انقضت العقبان على نوافذ القصر الرئاسي في صبيحة احد ايام خريفه الاخير وسمعنا اصوات حوافر حيوانات تجري بالداخل , ثم رأينا بقرة في الشرفة التي كان يطل علينا منها ليلقي خطاباته المكررة في ازمان سحيقة لا يذكرها اكبرنا , عندها لم يجرؤ احدنا على التصديق ,ليس لاننا نعرف ان البقر لايصعد السلالم ولكن لاننا نعرف انه سيد سلطته الابدية , بقرة في شرفة الوطن , ياللكارثة , لكن خاطرا مثل موته لم يمر بعقولنا اذ ان الشمس كانت تشرق والحياة كانت تتواصل , والبريد كان يصل في موعده وكانت جوقة البلدية تعزف فالسا كئيبا في ايام السبت وكان موسيقيون مسنون يحلون محل المتوفين , لا انه لا يموت ,

*****


الرواية تقريبا عبارة عن صولو طويل من العزف احادي النغمة تقاطعه رؤى وروايات واحداث جانبية عارضة تخص الوطن , الوطن الذي لا يعني شيئا على الاطلاق , الوطن , اها , بلا حماقات , الوطن هو ان تكون موجودا عزيزي , مثل هذه - قلب في يده كرة من الكريستال - اما ان تكون بحوذتك او لا تكون , جنرالا لا يرى العالم سوى من ثقب مخيط تسده تراكمات هموم موروثة لاتنتمي له , ذكريات دونها على اوراق صغيرة حتى لا ينساها ثم اخفاها في مكان لا يعرفه سواه ثم لم تعد ذات معنى , عزف منفرد من الحكي يرسم شخصا واحدا , يعادي الجميع , بدءا من الاطفال مرورا بكل معارضيه المزعجين , وزراءه المتملقين , اصدقاءه المقربين , شبيهه الذي كان يحل محله في حفلات لا يطيقها واحجار اساس لمشاريع لن تتم وجولات لا طائل من وراءها سوى التصوير , وانتهاءا بالكرسي الباباوي , صعودا للسماء ليعادي الله ذاته ويقف ليقول عاش انا .




لا اشخاص سواه او من يذكرهم بنفسه




امه بنثديون الفريدو أم حياته , مربية الطيور التي صارت تضعه في مواقف بالغة الحرج كأن تقول على الملأ لو انني اعرف ان ابني سيصير رئيسا لكنت ارسلته للمدرسة , فأمر بنقلها لقصر الضاحية حتى قاربت على الموت فنقلها لقصره مع طيورها ليطببها بنفسه ثم يلفق لها موتا اسطوريا ويعلنها قديسة بمرسوم .








صديقه ضابط المدفعية وزير الدفاع الفاني الوحيد المسموح له بالفوز عليه في لعبة الدومينو والذي انتهى به الحال متبلا ومشويا بالفرن ليتناول لحمه رفاق مؤامرته - المزعومة - بالامر القهري , هنيئا تفضلوا سادتي








ملكة جمال الفقراء التي تم ازالة حي كامل من حول بيتها ليتمكن من زيارتها يوميا بلا مضايقات وتم العبث بالمجموعة الشمسية ليلفت انتباهها ثم اختفت في ظروف غامضة تاركة له اختلالا في وظائف اخرى للقلب .




زوجته الشرعية الوحيدة التي علمته القراءة والكتابة ورزق منها بإبنه الوحيد فكانت تخرج للتسوق وتقول ارسلوا الفواتير للحكومة .



شبيهه الذي صارحه للمرة الاولى قبل ان يموت بالسم - لانه تجرأ في احدى الامسيات وفاز عليه في لعبة الدومينو - بأن هؤلاء الذين يتغنون باسمك وينادون بك سيدا للخسوف والكسوف والزلازل والسنوات الكبيسة واخطاء الرب الاخرى هم في الحقيقة لا يحبونك على الاطلاق حتى شعبك لايحبك , استغل موتي يا جنرال ومت انت ايضا .




وهو ما يحدث على مدار الرواية كلازمة غنائية ينتهي بها كل فصل , ان يموت الجنرال او ان يكتشفوا جثته على ذات الوضعية التي تنبأت بها العرافة التي حددت مصير كل مقربيه ثم لقيت حتفها على يد حارسه الشخصي , فيبدأ بعدها بعث جديد وسط ذهول الجموع الذين تخلى عنهم اليقين وما عادوا يعرفون له عمرا او شكلا , فيقوم من موته ليمسك بتلابيب سلطته الابدية ويمنح البرصى والمشلولين الذين يملأون حديقة قصره ملح العافية فيشفون , ثم يرمي بخطاياه على جهله بأفعال الاخرين ويعاقبهم بالاعدام ويصطفي غيرهم ,


اذا فليعود كل المنفيين , يعودوا جميعا للوطن , ماعدا الكُتاب فهؤلاء قوم لا ترجى منهم منفعة , ماذا عن الاطفال يا جنرال , اي اطفال , الاطفال المستخدمين في قرعة اليانصيب المزيفة التي تفوز بها وحدك , لقد صار عددهم يفوق ألفي طفل , نحتجزهم حتى لا يفشى سر القرعة , اها الاطفال , بلا ترهات , اترين يا امي بنثديون الفريدو يا ام شقائي , لفقوا لي الادلة حتى يظهر انني ارسلت الفي طفل الى وسط البحر بشحنة متفجرات واغرقتهم , سينالون عقابهم يا اماه بعد ان امنحهم وسام الواجب ,




يعلن الحرب على كل المؤسسات الدينية ويأمر بطردهم من البلاد عرايا ثم يصطفي من بين الراهبات زوجة تصبح ام ولده الوحيد قبل ان تمزقهم الكلاب في احد الاسواق وينصرف وراء الفاعلين سنين طوال ينفق فيها اموال طائلة لقاتل اجير قبل ان ينقلب عليه ويقتله ويظهر للشعب بثوب المخلص ,


اجل يا رفاق لم يكن الجنرال يعلم بكل هذا ,



الديون يا جنرال


لم يبق في خزانة الدولة غير اموالك الطائلة ,


لايوجد مانبيعه سوى البحر , بلا حماقات , ثم يبيع البحر قطعا مرقمة ,



ثم ينصرف عن هذا كله نحو الجريدة التي تُطبع خصيصا بأخبار سعيدة فقط ليقرأها والقنوات التي تبث برامجا له وحده , اي سخافات هذه , لماذا يموت البطل في هذا الفيلم , عدلوه اذا , فيعدل , الحمى الصفراء تجتاح البلاد يا جنرال , بلا حماقات , ثم ينصرف ليشاهد نهاياته السعيدة التي اوصى بها , الطاعون يأكل شعبنا جنرال وما عاد هناك مكان للجثث , بلا حماقات , يقول لايوجد طاعون ياحمقى الفقراء يحصلون على موت مجاني ولا شيء سواه لو صار للبراز ثمنا - يوما ما - فسيولد هؤلاء بلا مؤخرات , ثم يأمر الا يدخل عليه أحد حتى لا تصيبه العدوى .

*****


يا مركيز العظيم , يا سيد الرواة , كيف ابدلت قلمي بذاك الشكل العجيب , أنا ياسيدي لا اكتب مقالاتي على هذا النحو مطلقا و انا لا ادري ان كان هناك شيء كهذا , لكنني - بعد - لم اتخلص من غنائية الرواية , الرواية على طول احداثها كتابة وزمنا عبارة عن ست فقرات لا اكثر , رواية كاملة في ست جمل فقط , ياللجمال , لا فواصل لا علامات ترقيم لا استراحات لا مجال لتأخذ انفاسك اللاهثة خلف الوصف الساحر , فماركيز لايصف وانما ينقل الواقع كما تنقله مرآة مستوية , يحكي عن تفاصيل لا لزوم لها بطريقة تجحدها كلمة الروعة قدرها فلا تزدك سوى مزيدا من التوريط , تبدأ الجملة في بداية الفصل فيحكي الجنرال ثم ننتقل لذكرياته ثم لهواجسه ثم للواقع ثم لراو اخر ثم لاشخاص نبتت من الفراغ فصار لها وجود مادي بمجرد ان تحدثوا ثم للجنرال ثم تتكرر اللازمة في النهاية فلا سبيل لقطع القراءة الا في نهاية الفصل , اي وقوف في اي موضع يهدد باعادة القراءة من بداية الجملة اي من بداية الفصل ,




وتستمر المقطوعة حتى يحل ماركيز لغز هذا الدكتاتور الازلي , سيد سلطته الكلية في نهاية الرواية عندما يفاجئه الموت الاخير ويحين خريفه الحقيقي عندما يمر عابرا بالمرآة حاملا مصباحه فيرى انعكاسه جنرالا ثم جنرالان ثم اربعة عشر جنرالا ,

اربعة عشر جنرالا متعاقبين استخدموا صورة وافعال وافكار وحماقات وذكريات وحياة شخص واحد حتى فاجأه الموت اخيرا في مملكة سأمه وحيدا لا يقبض على سلطته , لا يلبس بدلته الكتانية ولا يضع نياشينه ولا مهمازه الذهبي , ستموت الان ياجنرال بضربة واحدة وينتهي زمن الابدية الهائل .


أحمد حلمي

البحيرة

9 / 11 / 2014

0 التعليقات

الكتلة الحرجة للانفجار

.
.
.
.

To go postal

هذا - بالصلا عالنبي - فعل جديد تم اضافته للإنجليزية الامريكية منذ سنوات قليلة - هذا يحدث طوال الوقت بالمناسبة - لكن الحدث هنا يدعو للتأمل ,
ليست هناك ترجمة حرفية للأمر , لكن شرح ملابساته قد يفضي للفهم .
الحكاية بدأت بانتشار نمط موظف البريد الذي يدخل ذات صباح حاملا سلاحا ناريا ليقتل زملاءه مع رواد المكان ويجلس في انتشاء منتظرا حضور الشرطة ثم يثبت محاميه بسهولة انه كان خارج الوعي ,
الفعل الجديد معناه حرفيا " ان تجن كموظفي البريد " هذا ما يحدث حرفيا لكنك لست مطالبا بتفسيره او منطقته , فللواقع سطوة فرض تفاصيله الخاصة , ان كنت غير قادر على استيعاب الامر فتلك مشكلتك لكنه في النهاية واقع .

لكن ماذا عن الاعمال الادبية , هنا على القلم ان يتمهل قليلا او يتنحى جانبا لنتفق على بعض التفاصيل المهمة .

التفصيلة الأكبر والاهم التي لابد وأن نتفق عليها فيما يخص الادب وهو ما سوف اضعه بين قوسين ليبقى واضحا من البداية ,



" ليس للأدب - للفنون عموما - كهنة أو كتب مقدسة نستقي منها , الأمر كله خاضع للإستحسان والتذوق والوعي المُخَاطَب وهي الميزة الأكبر - في الأدب على وجه التخصيص - وهو مايجعله في ذات الوقت فضفاضا محيرا في تعريفه "



لذا فكل ما سيرد هنا هو محض تذوق شخصي قابل للنقاش وللرفض كذلك .



هل الامر واضح الآن ؟

اعني , هل الأمر واضح انكم بصدد مقال أدبي ؟

***

كان كسارق النار من معابد آلهة الأوليمب , يقضي عقوبته السرمدية مكفرا عن ذنب لم يهتم كثيرا بمعرفته , يتنقل بين صفائح معدنية تكتظ بالبشر النصف نائمين النصف مستيقظين قاطعا عشرات الكيلومترات كل صباح ,

الا ان هذا كله تحول الى روتين ممل لم يعد يلقي له بالا فلا يستيقظ من همومه الا على كلمات تأنيب مديره المعتادة , هنا تبدأ المعاناة .


***
" معضلة التحولات الكبرى بين الواقع والادب "


السطر السابق يشبه عناوين الندوات التي تنظمها المؤسسات الثقافية الحكومية حيث يصرفون للناقد الضيف سبعة وعشرين جنيه ونصف مع فنجان قهوة مظبوط من البوفيه ,

لكنهم في الحقيقة لا يتحدثون في امور كهذه ,

المهم ,

دخل مكسيم جوركي مع تشيكوف ذات يوم لمكتب بريد بجوار سكن الاخير فلاحظ جوركي تصرفات مدير المكتب فقال لصاحبه وهو يحاوره " أليس هذا فلان من قصة كذا "
هنا تغير وجه الرجل كمن ضبط في فعل فاضح .

من المتفق عليه ان الادب هو مرآة الواقع , وان الالوان الادبية المختلفة انما تعبر عن العصر الذي انبتته القرائح التي عهدته , وان الواقع هو النبع الذي نستقي منه ونهذبه وننقحه ونشذبه ونصبغه بصبغات الادب البراقة ليصبح أكثر تقبلا ,

أكثر تقبلا ؟!

نعم , أكثر تقبلا , من انت لتنكر ذلك .


قد تقبل الواقع رغما عنك فلماذا تفعل ذات الشيء على الورق .

مالم تكن هذه الورقة هي صفحة وفيات مثلا

***

أخبرهم من اليوم الأول للتعين أنه يسافر عشرات الكيلومترات كل صباح الا أن اصرارا غير مبرر كان وراء وضعه في الحصة الاولى كل يوم .

يأتي متأخرا مايقرب من نصف ساعة كعادته , يدخل ذات الفصل , تمطر السماء صمتا يمتزج بصوت ارتباكه اليومي , يجتذب نفسا عميقا ويعتدل في وقفته ناظرا للباب منتظرا آخر تفاصيل عقوبته الصباحية التي لاتتأخر كثيرا .

***

نهرب من الواقع للأدب قراءا وكتابا , الامر جلي جدا ,
لكن الملفت حقا ان الامر كله يتعلق بمبدأ
" دعني اخدعك ... دعني انخدع "
او افراط القارئ والكاتب على حد سواء في استخدام " التعطيل الارادي لعدم التصديق "
هنا تذوب الفوارق بين ما يمكن تصديقه وما لا يمكن استيعابه اصلا , ان اعتماد الكاتب على نقل تفاصيل واقعية للورق دون مراعاة منطقيتها او تقبل القارئ لها على الورق من شأنه ان يورث ازمة في الثقة بين طرفي الصفقة - تقبل الادب صفقة بالمناسبة تنبني في الاساس على الثقة -

القارئ لن يقبل لامنطقية حكايتك لمجرد انها مأخوذة من الواقع ,
او ان هناك اشباها لها من حولك ,
جرب شيئا آخر .

***

يدخل كبير الكهنة ليبعثر ماتبقى من ثبات صاحبنا بين المقاعد , يحاول هو ان يلملم بقايا كرامته المهدرة امام تلاميذه , يتمتم بكلمات غير مفهومة ويهم بإنقاذ ماتبقى من وقته وسط وصلة الاهانات التي وجدت لنفسها حيزا من روتينه مؤخرا ,

كان التفاته نحو السبورة في ذات الوقت يوميا تلميحا بقرب نفاذ ماحمله من كرامة ليومه وعلامة مؤكدة على قرب مغادرة كبير الكهنة ,

فقط دقيقة واحدة زادت عن المقدار المعتاد كانت كفيلة بإضافة تفاصيل جديدة للمشهد .

***

في رواية فيرتيجو لاحمد مراد يقرر البطل ان يغير مسار حياته - النمطية ذات اللاهدف - نهائيا ويتحول لشخص آخر تماما , ليس لان صاحبه قُتِل وليس لان الجريمة تم محو آثارها واغلاق القضية للأبد وليس لانه ترك بيته ويسكن في غرفة ملحقة بملهى ليلي ,
ولكن لأنه رأى رجلا كان يثق به في وضع مخل ,
يا سلام

الامر اشبه بأن تقرر ان تلحد لأنك رأيت امام المسجد الذي تصلي فيه لا يغض بصره مثلا ,

في الواقع انت غير مطالب بتقديم شروحات او منطقة اي شيء ,
لماذا يموت الشخص الوحيد الذي تنتظره عائلة كاملة يعولها بينما يعيش باقي ركاب السيارة ,
في الواقع يبحث العقل عن تفسير فلايجد فينصرف مستسلما - على أي حال -
لكن في الادب سيقف عقل القارئ كثيرا ليرفض تلك التفاصيل لأن العودة لأصل الاشياء ستنبئه من الخطوة الاولى للخلف انك وراء كل هذا وكان يمكنك تغيير كل ذلك ,
لماذا اخترت ابعد التفاصيل عن المنطق .

***
في صبيحة اليوم التالي حضر في الوقت المعادل للحصة الثالثة , بينما كانت حوائط المدرسة مازالت تنضح بمشهد عدو مدرس الرياضيات الوديع بفرجار خشبي كبير خلف المدير الغارق في دمائه .

***

في رواية السنجة يقول أحمد خالد توفيق بعد حوالي أربع أو خمس صفحات من شرح الدوافع النفسية لبطله المستكين الذي قرر فجأة ان يقتل أحد المسؤلين لانه شعر فجأة بالخداع :


" لقد كانت هذه هي القطرة رقم مائة , تلقى قبلها تسعة وتسعين قطرة حتى حدث الشرخ في الصخرة , النظرة السطحية تقول انه قرر ان يقتل مسؤل ما لان الدجاجة كانت محقونة بالماء , لكن الحياة اكثر تعقيدا من ذلك "

هذا يلخص كل شيء
موظف البريد الذي تم استهلاكه معنويا في روتين طاحن لمدة عشرة او عشرون عاما حتى اصبح يكره المكان كالجحيم قد افسح لنفسه مكانا في الواقع واستولد سلوكا اجتماعيا واختص نفسه بفعل في اللغة لكنه ببساطة لايصلح للأعمال الادبية - إلا تحت اشراف طبيب - , ومدرس الرياضيات المستكين الذي اخرج البلطجي من داخله في لحظة تراها النظرة السطحية روتينا لن تراه في اي رواية محكمة .

منحنيات الواقع الحادة لا تصلح ببساطة للأدب , القارئ لن يتحمل ان تفاجئه بشيء ضد منطقه بسهولة , ستضيع الصفحات هدرا في شروحات وتبريرات انت في غنى عنها .
التفاعل المتسلسل الذي يصل بالانسان للكتلة الحرجة التي لا يمكن احتواءها او التنبؤ بها شيء يخص الحياة الواقعية فقط ولايمكن نقله للورق بدون وجع دماغ ,
باختصار ,
لاتجربوا هذا في المنزل

دمتم في حفظ الله

أحمد حلمي

14 / 9 / 2014

0 التعليقات

عبارات لن يترجمها جوجل


" لاتحتاج الكتابة لمبررات , فقط تحتاج لدوافع "

لا أذكر كم مرة كتبت مقدمة تحمل مثل هذا المعنى , بل لا اذكر كم مرة جالت بخاطري وودت ان اكتبها ثم تراجعت ,
قبل خمسة شهور من الآن كتبت عن الارض شديدة الانحدار التي نسير عليها بظهورنا غير عالمين بنهاية الطريق , غير راغبين في المعرفة اصلا - ومن يريد أن يخبره أحدهم عن نهاية وضعية كهذه ,

ولأن المياه - تبعا لقوانين الفيزياء - لاتسير للأعالي فإنه لا داعي لذكر أي شيء يتعلق بتلك الحقائق حفاظا على ماتبقى من الثبات النفسي - هذا إن وجد اصلا - لكن ما لا افهمه جيدا , لماذا تتضافر كل الموجودات لتلخص امامي فكرة واحدة وتتجمع وتتبلور وتنمو لها اجنحة وتصير شيئا مزعجا يتحدى تجاهلي لكل المزعجات وتطن محلقة لتملأ كل الحيز الذي افسحته لنفسي - بشق الانفس -كي أتنفس بحرية وترتطم بجدران عقلي محدثة كل تلك الجلبة الآن بالتحديد ,

ربما لأن الذكريات الموجعة تتناسل - بصورة جيدة - في مواطنها الاصلية زمانيا ومكانيا ,

أو ربما هو قدركم ان اتخلص من محتويات حقيبة ظهري في ساحتكم كي اتنقل بحرية اكبر .

* * * * * * *

وأنا بين مخالب الظروف المهلكة

لم أجفل أو أصرخ عاليا

ومع توالي ضربات القدر

غطت الدماء رأسي

لكنه لم ينحن



من قصيدة " الذي لا يقهر " للشاعر ويليام ارنيست هينلي



السبت

الرابع عشر من ديسمبر 2013

المسرح الشتوي

العرض الثالث لنادي السينما

وقفت للمرة الاولى لاواجه جمهورا سينمائيا متحمسا للتجربة الجديدة وقد اضاف له الفيلم - المنتهي توا - حماسا فوق ما اتى به ,

لم يأخذ مني الامر سوى دقائق لأدرك فداحة الامر ومرارة ما خلف كلماتي ,

لقد خرج الامر تماما خارج اطار السينما لكن لم يكن هناك مجالا للتراجع , لتكمل ما بدأته إذا , ما ان انتهيت حتى قال لي سامح : " قاتلك الله ياحلمي "



الفيلم الذي يحمل ذات عنوان القصيدة والذي يحكي جانبا من أول سنوات حكم الراحل نيلسون مانديلا لجنوب افريقيا بعد خروجه من السجن تم بناء السيناريو الخاص به استنادا إلى كتاب يوثق الوقائع الاصلية بعنوان

"Playing the enemy"



الكتاب من تأليف جون كارلين



وغلاف الكتاب يحمل صورة لنيلسون مانديلا وهو يحمل كأسا بجوار أحد الرياضيين , بينما كُتب تحت العنوان بخط اصغر " نيلسون مانديلا واللعبة التي بنت الامة "



هل خمن أحدكم أي شيء ؟

* * * * * * *

قبل حوالي شهرين فوجئت ذات صباح بخبر اعتقال زميل لنا بلا تهمة حقيقية تقريبا ,

دخلت صفحته لأتأكد من الخبر فوجدت انه لم يكتب احدهم اي شيء بعد لكن ما كان بانتظاري هناك كان شيئا آخر أكثر الما ,

كانت قد مضت على اعتقاله ساعات قلائل فكانت الصفحة مازالت تحمل بصماته التي كان آخرها منشور ( شماتة ) في أحد النشطاء الذين حُكم عليهم بالسجن - قبل أيام - مرفقا شماتته بصورة ضوئية لمنشور لذات الناشط يشمت فيها بدوره في مناسبة سابقة من الفئة التي يناصبها العداء في يوم كرب لهم لانهم كانوا قد شمتوا فيه سابقا في يوم كان قد اااااا....

وهكذا يمكنك ان تعود بظهرك في ذاكرة متسخة بالضغائن لمدة ثلاث سنوات دون ان تصادف اي شيء غريب .



لولا انني اصبت بالصداع خلال النظر في مشهد المرايا المتقابلة هذا لكنت بدوري ربطت طرف الخيط الخاص بي في ذيل خيوطهم ودرت في ذات الفلك دون الشعور بأي شيء غريب .

* * * * * * *

عشرة أعوام قضاها اينشتاين يفكر ويتأمل محاولا وضع المعادلة المحركة لهذا الكون ,

بين عامي 1906 و 1916 وخلال آلاف من دروب التفكير ودون كتابة سطر واحد ومرورا بعبارته الشهيرة " اما انني اسير نحو المجد او ان الله اراد لي الضلال والمزيد منه " ,

حتى خرج لنا بمعادلته التي لا تقاوم حول حساب المسارات المنحنية في اي مكان في الكون بفعل الجاذبية ,

ان كنت ترى الامر ملتبسا بعض الشيء سأقول لك بكل بساطة سطرا واحدا



" اذا القيت اي جسيم في الفراغ فإنه - وعلى غير المتوقع - سيتخذ مسارا منحنيا ولن يسير في خط مستقيم كما تظن بل ويتعين عليك ان تكون اينشتاين لتتنبأ به "



يقول اينشتاين معلقا على هذا السطر

" لنتخيل أن هناك حشرة عمياء تسير على جذع شجرة منحني تحسب انها تسير للأمام في خط مستقيم , كل ما هنالك انني تمكنت من ادراك أن الجذع منحني فحسب "



الخلاصة انه ليس هناك مسار مستقيم في هذا العالم , نحن نسير متعاقبين في مسارات منحنية معدة سلفا وان كنا لا ندري .

* * * * * * *
في أوائل التسعينات خرج نيلسون مانديلا بعد سبعة وعشرين عاما من السجن ليقول لاتباعه القوا اسلحتكم في البحر ودعونا نثبت لهم انهم كانوا على خطأ عندما عاملونا بهذه الطريقة ,

وسط كل حملات التشكيك والتوقعات بعدم القدرة على ادارة الدولة كان نيلسون مانديلا يؤمن بشيء واحد



" إذا لم تتغير قناعاتي حسبما تتغير الظروف فكيف لي ان اطلب من الجميع أن يفعل ذلك "



لكن الكتاب الذي يحمل عنوانا عبقريا للغاية لم يكن يحكي عن ذلك



الكتاب كان يحكي عن ( الرجبي ) لعبة السادة البيض التي سوف تستضيف جنوب افريقيا منافسات كأس العالم فيها بينما يحاول المسؤلون الجدد - سود البشرة - التنكيل بأعدائهم القدامى بتسريح الفريق وبناء اخر جديد يعبر عن ألوان الدولة الجديدة ,

الامر يبدو منطقيا تماما وسيتم وفقا لاجراءات قانونية كذلك ,

لكن الرئيس الذي كان - ككل اسود - يشجع كل خصوم الفريق محل النزاع طوال مدة سجنه فقط كي يضايق سجانيه البيض ادرك فداحة الامر وتدخل ليمنعه بشكل غير قانوني معقبا بأن الانتصارات الصغيرة هذه سوف لا تكسبكم سوى عداوات كبيرة لن تفيدنا في بناء دولتنا ,

دعونا نثبت لهم خطأ مخاوفهم من وصولنا للحكم

الفيلم ينتهي كما يحكي الكتاب بالتفاف الشعب كله حول منتخب الرجبي الذي كان يمثل العنصرية بكل مساوئها لعقود طويلة .

* * * * * * *

كما حكى اينشتاين تماما عن تأثير الاجسام الكبيرة في الفراغ الممتد نسير نحن على غير هدى حاسبين اننا نمشي للأمام

يقول اينشتاين ببساطة ان الاجسام الكبيرة تقوم بإحناء الفراغ حولها مجبرة كل المحيطات ان تسير في مسارات محددة ,



لذا يسير كل شيء بأريحية تامة في مسارات معوجة بينما يحسب انه يمشي للأمام


هناك قوة ما خفية لا نعرف كنهها تفعل ذات الشيء معنا


لذا تسمع بغير خجل عن عبارات مثل ( ايه اللي وداهم هناك ) بينما يحق لقائلها الذهاب بكل حرية اذا اراد هو ذلك

طالما انت في موقف القوة يمكنك ان تقول وتفعل اي شيء



يمكنك ان تسمع عن قانون لحرمان الخصوم من ممارسة حقوقهم بينما لم يدر بخلده انه كان بالامس يعاني من ذات الشيء



يمكنك ايضا تستخدم ايدولوجياتك لقتل خصومك بكل اريحية متذرعا بذرائع واهية لاتقنع طفلا دون ان تفكر ان ابادة الافكار غير وارد على الاطلاق

من قال لكم ان الدول تبنى على جثث الخصوم مهما كان جرمهم

سوف تدورون في ذات المسار المنحني لقرون قادمة ما لم تفهموا كيف يسير الكون ,

ما لن يترجمه جوجل بدقة فيما يخص نيلسون مانديلا هو ببساطة عنوان الكتاب



" Playing the enemy "



فقط لأن الامر فلسفيا وليس لغويا



أن تلعب دور العدو ,

أن تجلس مكانه ,

أن تملك قدراته وسلطاته التي تملكها ومارسها عليك يوما ما ,

ان تسكن مساكن الذين ظلموا ,



هذه ليست بكائية ,

لأن النهاية لم تكتب بعد لكنها محاولة لتقريب أمر ما للذهن - لذهني انا على الاقل -

" كل الحكاية ان مياها كثيرة قد جرت في اراض لم يعدها الدهر لتصبح مجرا لنهر من الاساس لذا فلن تصل لابعد مما بدأت منه ولن تذهب لاي جهة على اي حال "



يمكننا ان نبدأ من تلك الحقيقة لو اردنا الخروج من اسار تلك المعضلة



كل عام وانتم بكل الخير



دمتم في حفظ الله



أحمد حلمي



البحيرة



27/6/2014

0 التعليقات

هدى - قصة قصيرة


.

تحفظ قدماها الارصفة ,
لذا , لم يضطرها الزحام عندما اسدلت غطاء رأسها على وجهها كي تعيد تعديل وضعه - كما ودت من داخلها ان تعدل اوضاعا كثر اضناها طول الميل - أن تتوقف .
تحت شمس الظهيرة القائظة وبسنوات عمرها التي تجاوزت اصابع اليد الواحدة بقليل كانت تعرف وجهتها جيدا , واصلت سيرها بين المسافرين فلم يمنع عيناها ما غطاهما من إبصار الدرب كما منعت أثار الزمن التي تتابعت على جمال ثوبها من رؤية الحاضر ,
عاندتها على غير ما انتظرت نسمات الظهيرة النادرة فأخرت عملية الهندمة - المحدودة الاثر - وزادتها تعقيدا لكنها ما اثنتها ولا اعاقتها عن مسارها المرسوم سلفا .

توقفت قدماها تلقائيا في الموضع المنشود بينما كانت يداها الدقيقتان تواصلان ما بدأتاه منذ برهة مضافا اليه مقاومة رياحا كثر اهونها ما هب منذ قليل ,
ما لم تحسب له حسابا - وسط كل هذا الصخب - انني كنت أرقبها من البداية .

عندما اطل وجهها - الذي لم تفلح الاوضاع المائلة ولا شمس الظهيرة ولا الرياح المفاجئة ولا حتى آثار تتابع الزمن الغاشم في اخفاء جماله الهادئ - من تحت غطاء رأسها ورفعت عينيها وهمت بتأدية حركات آلية - باغتت بها كل المسافرين لتلفت انتباههم - كنت هنالك انتظر .

لثانية او لجزء منها اعتلت وجهها نظرة ارتباك من أخل بمتطلباته الوظيفية , كمذيعة اكتشفت انها على الهواء بينما كانت - لاتزال - تعدل من زينتها , تحركت مقلتاها بقلق دفين ثم غمرت وجهها وقلبي والرصيف والحقائب والمسافرين والقطارات وشمس الظهيرة ورياح الزمن بأروع ابتسامة خجل ممكنة , وأجابت بصوت هامس - عندما سألتها عن اسمها - قبل ان تأخذ القليل مغموسا بكل تعاطفي معها وترحل
" هدى "


أحمد حلمي

أسيوط

10/6/2014

0 التعليقات

متتالية - قصة قصيرة

بداية



كان يمقت كل البدايات الجديدة بقدر كرهه للنهايات الموجعة ,

ود لو أن فصول واقعه تصير كأحلامه , تبدأ كلها من المنتصف متجاوزة كل البدايات السخيفة ,

يجيد السباحة لكنه يكره الشواطئ ,

اضطره ذلك للتعايش مع كل تفاصيل حياته التي يود أن يستبدلها بأخرى جديدة ,

تجاهل كل ما برق حوله لمجرد انه يحتاج فقط لبداية كي يقترب ,



" في البدء كانت الكلمة "



يمكنه أن يتكلم ليوم يبعثون لكن ليس في البدء ,

تبا ,



لماذا لم يكن ذلك في المنتصف ,



هكذا كان يحدث نفسه كلما احتاج لبادئة ,



حتى جاء اليوم الذي ملت فيه الصمت ,

فكانت هي البادئة ,

يومها , احب كل الشواطئ وود لو يبقى في بداية ابدية لا يبرحها



........



منتصف





يقف في منتصف حياته - أو هكذا يظن - ممسكا بنهايات كل الخيوط التي تقطعت بداياتها تباعا أو اوشكت ,

يدرك - عندما يحاول أن يتشبث بها كي يجد الطريق , يبصر الدرب , يتحسس الخطو أو يستطلع وجهته - بأنه صار - بلا أدنى مواربة - قابضا على العدم ,

يبحث عنهم ,

كل من تقاطعت دروبهم بدربه فأنارها ورحل , فارتحلوا ,

تتراءى له أطيافهم ,

يرفع يده ,

يشير نحو اللاشئ , يجاهد كي يول فارا في أي إتجاه آخر فلا يستطيع ,

يتمنى لو أنه في بداية أي شئ جديد غير ما أفنى فيه نصف عمره - أو هكذا يظن -

يستسلم مجهدا لطريقه الذي رُسم سلفا كي ينتهي بعد منتصف عمره بخطوتين ...

أو هكذا كان يظن انه المنتصف .



.........



نهاية



لو أن حياته كانت آلة ميكانيكية فهناك حتما ترسا كبيرا منها قد فُقِد , وهو ما اورثه عدم اتساق قاتل في وظائفه الانسانية ,

لايدري كيف أمكنه احتمال الامر حتى الان ,

كيف له ان يرى تلك الهالة التي طالما احاطهم بها قد احيطوا بها الان من الجميع بينما يقف هو غير بعيد ليشاهد الحدث الذي طالما تمناه - ربما اكثر منهم - يتجاوزه ببطء مؤرق غير عابئ بوجوده ,

ربما هي متلازمة عدم تصديق ان الحياة ستمضي حتما بعد رحيلنا ولن تنتظر ولن تتوقف ولن يهتز لها اي طرف ,

هذا اقرب شئ لما هو فيه الان ,

وكان ليتقبله راضيا فقط لو فهم ,

كيف تم قتله بكل هذا التهذيب والطمأنينة وراحة الضمير



أحمد حلمي

ابريل 2014