0 التعليقات

أغاني الساحل الكاريبي



حسنا , سنحكي عن ماركيز العظيم ,
في زيارتي الثانية له والتي لم تكن لرائعته التي لفتت الانتباه لأدب اللاتينيين ككل - لأن اوانها لم يحن بعد - أصابني الارتباك , وعلى طول صفحات الرواية كان يتردد في ذهني ذات السؤال : ما هذا الذي يفعله ماركيز بفن ينتمي تاريخيا للروس ؟ ,


جابرييل جارسيا ماركيز المولود في كولومبيا في العام 1928 والحاصل على جائزة نوبل في الادب في العام 1982 بدأ حياته كصحفي مغمور ثم كروائي فاشل - جماهيريا - فروايتيه " عاصفة الاوراق " و " ليس للكولونيل من يكاتبه " لم تجدا - تقريبا - من يبتاعهما , افلس تماما واضطر لان يبيع اثاث بيته ليشتري اوراقا ليكتب ما سيجذب انظار العالم اجمع نحو ارض جديدة من الادب لم تطأها اقدام من قبل , ذلك انه في العام 1967 كان أمام اهم حدث سيغير حياته للابد , عندما صدرت روايته ذائعة الصيت " مائة عام من العزلة " , وكان وقتها يعيش في مكسيكو سيتي ولا يجد ثمن تذكرة العودة لوطنه لكن عمله الدؤوب طيلة ثمانية عشر شهرا بلا توقف تكفلوا بإعادته للحياة , في العام التالي ولمدة سبعة اعوام عكف على كتابة روايته الاقل شهرة من سابقتها وان كانت كما يراها هو اعلى قيمة غير انها ليست رواية شعبية , يقول ماركيز عن روايته التي مُنعت من النشر في معظم ممالك امريكا اللاتينية كإجراء احترازي ثم افرج عنها بلا سبب سوى انهم لم يروا مبررا لاثارة بلبلة دون داع , رغم انه كان هناك داع كبير , انه كان يكتب خمس سطور في يوم كامل ثم يرسلهم لسلة المهملات في اليوم التالي وانها جديرة بأكثر مما نالته " مائة عام من العزلة " لكنه كان يعرف انها ليست رواية جماهيرية فلن تنال ولو نصف ماتستحقه , نحكي هنا عن رواية " خريف البطريرك " الصادرة في العام 1975 .




لكنه كان لابد ان نعرف كيف بدأ كل شيء اولا ,


بداية نحن بصدد رواية غنائية , والمصطلح دقيق تماما وغير مجازي بالمرة ,


وفي ذلك الوقت - وقت كتابة الرواية - لا تُسمع اغان قط في الساحل الكاريبي , وانما يُسمع صوت الرصاص , صوت الجوع , صوت المؤامرات , صوت الخيانة , صوت الانقلابات , صوت المذابح , صوت الدكتاتوريات , صوت الظلم , وصوت الكاريبي الذي لا يعجبه كل ذاك فيرحل تاركا اياهم , لكن ماركيز عمد لعزف سيمفونية تأخذ الانفاس من كل هؤلاء ,
الرواية تدور في زمن غير معروف لكنه مغلق بطريقة تجعلك تدور بين جنباتها تجمع التفاصيل لتعيد ترتيب المشاهد لتصل لصورة كاملة للأحداث , وهذا اصعب ما فيها , ان كنت تجد الزمن هو البطل في " مائة عام من العزلة " فالزمن هنا هو الشخص غير المرئي الذي تنسب له كل احداث الرواية وتقلباتها وصعودها وهبوطها دون ان يبدي طرف ثوبه , حتى لتشعر أنها آنية الحدوث , لا لا انها ابدية , ازلية , لم تتجاوز ذات المشهد أم انها تحكي مايزيد عن قرنين ?!
شيء يبعث على الارتباك حقا لكنه ممتع بشكل ما ,
يا أمي بنثديون الفريدو يا ام روحي ما هذا الذي يحدث في مملكة سأمي الشاسعة لماذا كُتب علي انا ان ابقى خالدا وسط كل هؤلاء الحمقى الفانين , لماذا لا تحل لعنتك عليهم فيقاسمونني ما انا فيه من شقاء , لماذا اظل انا هنا حتى يمر النجم المذنب مرتين , لا لا بل ثلاثة , ثلاث مرات , يا اماه لقد كفت طيور الكاريبي الحزينة عن الغناء رغم اني اسقيها عسلا كل يوم , في حين ان صوت صياحها كان يمنع موظفي الديوان من سماع بعضهم البعض , فكان يغطيها كل يوم ويحمل المصباح , يطمئن على البقرات في الحظيرة , يصعد الى غرفته , يغلق الرتاجات الثلاثة والمزاليج الثلاثة والدعامات الثلاثة ويعلق مصباحه فوق الباب لينام ببدلته الكتانية ونجماته ونياشينه ومهمازه الذهبي على الارض بجوار مكتبه واضعا ذراعه اليمنى تحت رأسه كوسادة فينام العالم كله ويكف الكون عن الدوران .




ما حدث في الفقرة السابقة هو مجرد محاكاة لما فعله ماركيز بروايته المعجزة التي تنامت خيوط روعتها لتصل للقارئ عبر - حتى - الترجمات المختلفة , قرأت نسخة منقولة من الفرنسية عن الاسبانية فإذا بي اتساءل : ترى كيف كان النص الاصلي ؟




ماركيز في روايته التي تحكي عن ميراث الدكتاتوريات اللاتينية في مايقرب من 300 صفحة جاعلا إياها لا نهائية الصفحات تصلح لان تُقرأ من اي نقطة , عدد الصفحات المحدود كان يتمدد بشكل ملحوظ بين التفاصيل الكثيرة ليستوعب زمنا لانهائي , يسير بين ردهات عقل جنرال ذو نفوذ ابدي يرى العالم من منظوره , يتلمس ذكرياته , يرويها , يصورها من الخارج , يهبط في إحداها يحكي سنوات حدوثها بالتفصيل - نعم سنوات - تتباعد الاشياء , يلتقط الحدث احد العابرين ليكمله ثم يسلمه لآخر ثم يروي الحدث نفسه بنفسه , ثم يعود الحكي لفم الجنرال مرة اخرى , لا بل يعود لعينيه , تحكي لنا عينيه كل ما يختلج في نفسه , فماركيز لايدع شخوصه تحكي ابدا , هم لا يقولون , وانما يرون وانت ترى بعيونهم .




اماه بنثديون الفريدو يا ام موتي , هل يدرك هؤلاء الحمقى الذين يطالبونني بتسمية من يخلفني انني حقا لا اموت , لقد قلت لهم انني سأموت لثلاثة ايام فقط ثم اعود لأعدم كل هؤلاء الخونة الذين رقصوا فوق جثتي فرحا ولسوف تتحول اجراس الاحتفال بموتي لاجراس احتفال بعودتي .

******


في بداية روايته الممتعة حد الايلام يُعرف ماركيز الدكتاتوريات والظلم والاستعباد عن طريق عرض افكار البسطاء الساذجة عن حاكمهم , يقول ببساطة - دون ان يقول - ان الاستعباد هو ارث للعقول وليس للاجساد ,
انظروا معي :


هل كان هناك يوما , نحن لانعرف يقينا , لكن عندما انقضت العقبان على نوافذ القصر الرئاسي في صبيحة احد ايام خريفه الاخير وسمعنا اصوات حوافر حيوانات تجري بالداخل , ثم رأينا بقرة في الشرفة التي كان يطل علينا منها ليلقي خطاباته المكررة في ازمان سحيقة لا يذكرها اكبرنا , عندها لم يجرؤ احدنا على التصديق ,ليس لاننا نعرف ان البقر لايصعد السلالم ولكن لاننا نعرف انه سيد سلطته الابدية , بقرة في شرفة الوطن , ياللكارثة , لكن خاطرا مثل موته لم يمر بعقولنا اذ ان الشمس كانت تشرق والحياة كانت تتواصل , والبريد كان يصل في موعده وكانت جوقة البلدية تعزف فالسا كئيبا في ايام السبت وكان موسيقيون مسنون يحلون محل المتوفين , لا انه لا يموت ,

*****


الرواية تقريبا عبارة عن صولو طويل من العزف احادي النغمة تقاطعه رؤى وروايات واحداث جانبية عارضة تخص الوطن , الوطن الذي لا يعني شيئا على الاطلاق , الوطن , اها , بلا حماقات , الوطن هو ان تكون موجودا عزيزي , مثل هذه - قلب في يده كرة من الكريستال - اما ان تكون بحوذتك او لا تكون , جنرالا لا يرى العالم سوى من ثقب مخيط تسده تراكمات هموم موروثة لاتنتمي له , ذكريات دونها على اوراق صغيرة حتى لا ينساها ثم اخفاها في مكان لا يعرفه سواه ثم لم تعد ذات معنى , عزف منفرد من الحكي يرسم شخصا واحدا , يعادي الجميع , بدءا من الاطفال مرورا بكل معارضيه المزعجين , وزراءه المتملقين , اصدقاءه المقربين , شبيهه الذي كان يحل محله في حفلات لا يطيقها واحجار اساس لمشاريع لن تتم وجولات لا طائل من وراءها سوى التصوير , وانتهاءا بالكرسي الباباوي , صعودا للسماء ليعادي الله ذاته ويقف ليقول عاش انا .




لا اشخاص سواه او من يذكرهم بنفسه




امه بنثديون الفريدو أم حياته , مربية الطيور التي صارت تضعه في مواقف بالغة الحرج كأن تقول على الملأ لو انني اعرف ان ابني سيصير رئيسا لكنت ارسلته للمدرسة , فأمر بنقلها لقصر الضاحية حتى قاربت على الموت فنقلها لقصره مع طيورها ليطببها بنفسه ثم يلفق لها موتا اسطوريا ويعلنها قديسة بمرسوم .








صديقه ضابط المدفعية وزير الدفاع الفاني الوحيد المسموح له بالفوز عليه في لعبة الدومينو والذي انتهى به الحال متبلا ومشويا بالفرن ليتناول لحمه رفاق مؤامرته - المزعومة - بالامر القهري , هنيئا تفضلوا سادتي








ملكة جمال الفقراء التي تم ازالة حي كامل من حول بيتها ليتمكن من زيارتها يوميا بلا مضايقات وتم العبث بالمجموعة الشمسية ليلفت انتباهها ثم اختفت في ظروف غامضة تاركة له اختلالا في وظائف اخرى للقلب .




زوجته الشرعية الوحيدة التي علمته القراءة والكتابة ورزق منها بإبنه الوحيد فكانت تخرج للتسوق وتقول ارسلوا الفواتير للحكومة .



شبيهه الذي صارحه للمرة الاولى قبل ان يموت بالسم - لانه تجرأ في احدى الامسيات وفاز عليه في لعبة الدومينو - بأن هؤلاء الذين يتغنون باسمك وينادون بك سيدا للخسوف والكسوف والزلازل والسنوات الكبيسة واخطاء الرب الاخرى هم في الحقيقة لا يحبونك على الاطلاق حتى شعبك لايحبك , استغل موتي يا جنرال ومت انت ايضا .




وهو ما يحدث على مدار الرواية كلازمة غنائية ينتهي بها كل فصل , ان يموت الجنرال او ان يكتشفوا جثته على ذات الوضعية التي تنبأت بها العرافة التي حددت مصير كل مقربيه ثم لقيت حتفها على يد حارسه الشخصي , فيبدأ بعدها بعث جديد وسط ذهول الجموع الذين تخلى عنهم اليقين وما عادوا يعرفون له عمرا او شكلا , فيقوم من موته ليمسك بتلابيب سلطته الابدية ويمنح البرصى والمشلولين الذين يملأون حديقة قصره ملح العافية فيشفون , ثم يرمي بخطاياه على جهله بأفعال الاخرين ويعاقبهم بالاعدام ويصطفي غيرهم ,


اذا فليعود كل المنفيين , يعودوا جميعا للوطن , ماعدا الكُتاب فهؤلاء قوم لا ترجى منهم منفعة , ماذا عن الاطفال يا جنرال , اي اطفال , الاطفال المستخدمين في قرعة اليانصيب المزيفة التي تفوز بها وحدك , لقد صار عددهم يفوق ألفي طفل , نحتجزهم حتى لا يفشى سر القرعة , اها الاطفال , بلا ترهات , اترين يا امي بنثديون الفريدو يا ام شقائي , لفقوا لي الادلة حتى يظهر انني ارسلت الفي طفل الى وسط البحر بشحنة متفجرات واغرقتهم , سينالون عقابهم يا اماه بعد ان امنحهم وسام الواجب ,




يعلن الحرب على كل المؤسسات الدينية ويأمر بطردهم من البلاد عرايا ثم يصطفي من بين الراهبات زوجة تصبح ام ولده الوحيد قبل ان تمزقهم الكلاب في احد الاسواق وينصرف وراء الفاعلين سنين طوال ينفق فيها اموال طائلة لقاتل اجير قبل ان ينقلب عليه ويقتله ويظهر للشعب بثوب المخلص ,


اجل يا رفاق لم يكن الجنرال يعلم بكل هذا ,



الديون يا جنرال


لم يبق في خزانة الدولة غير اموالك الطائلة ,


لايوجد مانبيعه سوى البحر , بلا حماقات , ثم يبيع البحر قطعا مرقمة ,



ثم ينصرف عن هذا كله نحو الجريدة التي تُطبع خصيصا بأخبار سعيدة فقط ليقرأها والقنوات التي تبث برامجا له وحده , اي سخافات هذه , لماذا يموت البطل في هذا الفيلم , عدلوه اذا , فيعدل , الحمى الصفراء تجتاح البلاد يا جنرال , بلا حماقات , ثم ينصرف ليشاهد نهاياته السعيدة التي اوصى بها , الطاعون يأكل شعبنا جنرال وما عاد هناك مكان للجثث , بلا حماقات , يقول لايوجد طاعون ياحمقى الفقراء يحصلون على موت مجاني ولا شيء سواه لو صار للبراز ثمنا - يوما ما - فسيولد هؤلاء بلا مؤخرات , ثم يأمر الا يدخل عليه أحد حتى لا تصيبه العدوى .

*****


يا مركيز العظيم , يا سيد الرواة , كيف ابدلت قلمي بذاك الشكل العجيب , أنا ياسيدي لا اكتب مقالاتي على هذا النحو مطلقا و انا لا ادري ان كان هناك شيء كهذا , لكنني - بعد - لم اتخلص من غنائية الرواية , الرواية على طول احداثها كتابة وزمنا عبارة عن ست فقرات لا اكثر , رواية كاملة في ست جمل فقط , ياللجمال , لا فواصل لا علامات ترقيم لا استراحات لا مجال لتأخذ انفاسك اللاهثة خلف الوصف الساحر , فماركيز لايصف وانما ينقل الواقع كما تنقله مرآة مستوية , يحكي عن تفاصيل لا لزوم لها بطريقة تجحدها كلمة الروعة قدرها فلا تزدك سوى مزيدا من التوريط , تبدأ الجملة في بداية الفصل فيحكي الجنرال ثم ننتقل لذكرياته ثم لهواجسه ثم للواقع ثم لراو اخر ثم لاشخاص نبتت من الفراغ فصار لها وجود مادي بمجرد ان تحدثوا ثم للجنرال ثم تتكرر اللازمة في النهاية فلا سبيل لقطع القراءة الا في نهاية الفصل , اي وقوف في اي موضع يهدد باعادة القراءة من بداية الجملة اي من بداية الفصل ,




وتستمر المقطوعة حتى يحل ماركيز لغز هذا الدكتاتور الازلي , سيد سلطته الكلية في نهاية الرواية عندما يفاجئه الموت الاخير ويحين خريفه الحقيقي عندما يمر عابرا بالمرآة حاملا مصباحه فيرى انعكاسه جنرالا ثم جنرالان ثم اربعة عشر جنرالا ,

اربعة عشر جنرالا متعاقبين استخدموا صورة وافعال وافكار وحماقات وذكريات وحياة شخص واحد حتى فاجأه الموت اخيرا في مملكة سأمه وحيدا لا يقبض على سلطته , لا يلبس بدلته الكتانية ولا يضع نياشينه ولا مهمازه الذهبي , ستموت الان ياجنرال بضربة واحدة وينتهي زمن الابدية الهائل .


أحمد حلمي

البحيرة

9 / 11 / 2014

0 التعليقات

الكتلة الحرجة للانفجار

.
.
.
.

To go postal

هذا - بالصلا عالنبي - فعل جديد تم اضافته للإنجليزية الامريكية منذ سنوات قليلة - هذا يحدث طوال الوقت بالمناسبة - لكن الحدث هنا يدعو للتأمل ,
ليست هناك ترجمة حرفية للأمر , لكن شرح ملابساته قد يفضي للفهم .
الحكاية بدأت بانتشار نمط موظف البريد الذي يدخل ذات صباح حاملا سلاحا ناريا ليقتل زملاءه مع رواد المكان ويجلس في انتشاء منتظرا حضور الشرطة ثم يثبت محاميه بسهولة انه كان خارج الوعي ,
الفعل الجديد معناه حرفيا " ان تجن كموظفي البريد " هذا ما يحدث حرفيا لكنك لست مطالبا بتفسيره او منطقته , فللواقع سطوة فرض تفاصيله الخاصة , ان كنت غير قادر على استيعاب الامر فتلك مشكلتك لكنه في النهاية واقع .

لكن ماذا عن الاعمال الادبية , هنا على القلم ان يتمهل قليلا او يتنحى جانبا لنتفق على بعض التفاصيل المهمة .

التفصيلة الأكبر والاهم التي لابد وأن نتفق عليها فيما يخص الادب وهو ما سوف اضعه بين قوسين ليبقى واضحا من البداية ,



" ليس للأدب - للفنون عموما - كهنة أو كتب مقدسة نستقي منها , الأمر كله خاضع للإستحسان والتذوق والوعي المُخَاطَب وهي الميزة الأكبر - في الأدب على وجه التخصيص - وهو مايجعله في ذات الوقت فضفاضا محيرا في تعريفه "



لذا فكل ما سيرد هنا هو محض تذوق شخصي قابل للنقاش وللرفض كذلك .



هل الامر واضح الآن ؟

اعني , هل الأمر واضح انكم بصدد مقال أدبي ؟

***

كان كسارق النار من معابد آلهة الأوليمب , يقضي عقوبته السرمدية مكفرا عن ذنب لم يهتم كثيرا بمعرفته , يتنقل بين صفائح معدنية تكتظ بالبشر النصف نائمين النصف مستيقظين قاطعا عشرات الكيلومترات كل صباح ,

الا ان هذا كله تحول الى روتين ممل لم يعد يلقي له بالا فلا يستيقظ من همومه الا على كلمات تأنيب مديره المعتادة , هنا تبدأ المعاناة .


***
" معضلة التحولات الكبرى بين الواقع والادب "


السطر السابق يشبه عناوين الندوات التي تنظمها المؤسسات الثقافية الحكومية حيث يصرفون للناقد الضيف سبعة وعشرين جنيه ونصف مع فنجان قهوة مظبوط من البوفيه ,

لكنهم في الحقيقة لا يتحدثون في امور كهذه ,

المهم ,

دخل مكسيم جوركي مع تشيكوف ذات يوم لمكتب بريد بجوار سكن الاخير فلاحظ جوركي تصرفات مدير المكتب فقال لصاحبه وهو يحاوره " أليس هذا فلان من قصة كذا "
هنا تغير وجه الرجل كمن ضبط في فعل فاضح .

من المتفق عليه ان الادب هو مرآة الواقع , وان الالوان الادبية المختلفة انما تعبر عن العصر الذي انبتته القرائح التي عهدته , وان الواقع هو النبع الذي نستقي منه ونهذبه وننقحه ونشذبه ونصبغه بصبغات الادب البراقة ليصبح أكثر تقبلا ,

أكثر تقبلا ؟!

نعم , أكثر تقبلا , من انت لتنكر ذلك .


قد تقبل الواقع رغما عنك فلماذا تفعل ذات الشيء على الورق .

مالم تكن هذه الورقة هي صفحة وفيات مثلا

***

أخبرهم من اليوم الأول للتعين أنه يسافر عشرات الكيلومترات كل صباح الا أن اصرارا غير مبرر كان وراء وضعه في الحصة الاولى كل يوم .

يأتي متأخرا مايقرب من نصف ساعة كعادته , يدخل ذات الفصل , تمطر السماء صمتا يمتزج بصوت ارتباكه اليومي , يجتذب نفسا عميقا ويعتدل في وقفته ناظرا للباب منتظرا آخر تفاصيل عقوبته الصباحية التي لاتتأخر كثيرا .

***

نهرب من الواقع للأدب قراءا وكتابا , الامر جلي جدا ,
لكن الملفت حقا ان الامر كله يتعلق بمبدأ
" دعني اخدعك ... دعني انخدع "
او افراط القارئ والكاتب على حد سواء في استخدام " التعطيل الارادي لعدم التصديق "
هنا تذوب الفوارق بين ما يمكن تصديقه وما لا يمكن استيعابه اصلا , ان اعتماد الكاتب على نقل تفاصيل واقعية للورق دون مراعاة منطقيتها او تقبل القارئ لها على الورق من شأنه ان يورث ازمة في الثقة بين طرفي الصفقة - تقبل الادب صفقة بالمناسبة تنبني في الاساس على الثقة -

القارئ لن يقبل لامنطقية حكايتك لمجرد انها مأخوذة من الواقع ,
او ان هناك اشباها لها من حولك ,
جرب شيئا آخر .

***

يدخل كبير الكهنة ليبعثر ماتبقى من ثبات صاحبنا بين المقاعد , يحاول هو ان يلملم بقايا كرامته المهدرة امام تلاميذه , يتمتم بكلمات غير مفهومة ويهم بإنقاذ ماتبقى من وقته وسط وصلة الاهانات التي وجدت لنفسها حيزا من روتينه مؤخرا ,

كان التفاته نحو السبورة في ذات الوقت يوميا تلميحا بقرب نفاذ ماحمله من كرامة ليومه وعلامة مؤكدة على قرب مغادرة كبير الكهنة ,

فقط دقيقة واحدة زادت عن المقدار المعتاد كانت كفيلة بإضافة تفاصيل جديدة للمشهد .

***

في رواية فيرتيجو لاحمد مراد يقرر البطل ان يغير مسار حياته - النمطية ذات اللاهدف - نهائيا ويتحول لشخص آخر تماما , ليس لان صاحبه قُتِل وليس لان الجريمة تم محو آثارها واغلاق القضية للأبد وليس لانه ترك بيته ويسكن في غرفة ملحقة بملهى ليلي ,
ولكن لأنه رأى رجلا كان يثق به في وضع مخل ,
يا سلام

الامر اشبه بأن تقرر ان تلحد لأنك رأيت امام المسجد الذي تصلي فيه لا يغض بصره مثلا ,

في الواقع انت غير مطالب بتقديم شروحات او منطقة اي شيء ,
لماذا يموت الشخص الوحيد الذي تنتظره عائلة كاملة يعولها بينما يعيش باقي ركاب السيارة ,
في الواقع يبحث العقل عن تفسير فلايجد فينصرف مستسلما - على أي حال -
لكن في الادب سيقف عقل القارئ كثيرا ليرفض تلك التفاصيل لأن العودة لأصل الاشياء ستنبئه من الخطوة الاولى للخلف انك وراء كل هذا وكان يمكنك تغيير كل ذلك ,
لماذا اخترت ابعد التفاصيل عن المنطق .

***
في صبيحة اليوم التالي حضر في الوقت المعادل للحصة الثالثة , بينما كانت حوائط المدرسة مازالت تنضح بمشهد عدو مدرس الرياضيات الوديع بفرجار خشبي كبير خلف المدير الغارق في دمائه .

***

في رواية السنجة يقول أحمد خالد توفيق بعد حوالي أربع أو خمس صفحات من شرح الدوافع النفسية لبطله المستكين الذي قرر فجأة ان يقتل أحد المسؤلين لانه شعر فجأة بالخداع :


" لقد كانت هذه هي القطرة رقم مائة , تلقى قبلها تسعة وتسعين قطرة حتى حدث الشرخ في الصخرة , النظرة السطحية تقول انه قرر ان يقتل مسؤل ما لان الدجاجة كانت محقونة بالماء , لكن الحياة اكثر تعقيدا من ذلك "

هذا يلخص كل شيء
موظف البريد الذي تم استهلاكه معنويا في روتين طاحن لمدة عشرة او عشرون عاما حتى اصبح يكره المكان كالجحيم قد افسح لنفسه مكانا في الواقع واستولد سلوكا اجتماعيا واختص نفسه بفعل في اللغة لكنه ببساطة لايصلح للأعمال الادبية - إلا تحت اشراف طبيب - , ومدرس الرياضيات المستكين الذي اخرج البلطجي من داخله في لحظة تراها النظرة السطحية روتينا لن تراه في اي رواية محكمة .

منحنيات الواقع الحادة لا تصلح ببساطة للأدب , القارئ لن يتحمل ان تفاجئه بشيء ضد منطقه بسهولة , ستضيع الصفحات هدرا في شروحات وتبريرات انت في غنى عنها .
التفاعل المتسلسل الذي يصل بالانسان للكتلة الحرجة التي لا يمكن احتواءها او التنبؤ بها شيء يخص الحياة الواقعية فقط ولايمكن نقله للورق بدون وجع دماغ ,
باختصار ,
لاتجربوا هذا في المنزل

دمتم في حفظ الله

أحمد حلمي

14 / 9 / 2014

0 التعليقات

عبارات لن يترجمها جوجل


" لاتحتاج الكتابة لمبررات , فقط تحتاج لدوافع "

لا أذكر كم مرة كتبت مقدمة تحمل مثل هذا المعنى , بل لا اذكر كم مرة جالت بخاطري وودت ان اكتبها ثم تراجعت ,
قبل خمسة شهور من الآن كتبت عن الارض شديدة الانحدار التي نسير عليها بظهورنا غير عالمين بنهاية الطريق , غير راغبين في المعرفة اصلا - ومن يريد أن يخبره أحدهم عن نهاية وضعية كهذه ,

ولأن المياه - تبعا لقوانين الفيزياء - لاتسير للأعالي فإنه لا داعي لذكر أي شيء يتعلق بتلك الحقائق حفاظا على ماتبقى من الثبات النفسي - هذا إن وجد اصلا - لكن ما لا افهمه جيدا , لماذا تتضافر كل الموجودات لتلخص امامي فكرة واحدة وتتجمع وتتبلور وتنمو لها اجنحة وتصير شيئا مزعجا يتحدى تجاهلي لكل المزعجات وتطن محلقة لتملأ كل الحيز الذي افسحته لنفسي - بشق الانفس -كي أتنفس بحرية وترتطم بجدران عقلي محدثة كل تلك الجلبة الآن بالتحديد ,

ربما لأن الذكريات الموجعة تتناسل - بصورة جيدة - في مواطنها الاصلية زمانيا ومكانيا ,

أو ربما هو قدركم ان اتخلص من محتويات حقيبة ظهري في ساحتكم كي اتنقل بحرية اكبر .

* * * * * * *

وأنا بين مخالب الظروف المهلكة

لم أجفل أو أصرخ عاليا

ومع توالي ضربات القدر

غطت الدماء رأسي

لكنه لم ينحن



من قصيدة " الذي لا يقهر " للشاعر ويليام ارنيست هينلي



السبت

الرابع عشر من ديسمبر 2013

المسرح الشتوي

العرض الثالث لنادي السينما

وقفت للمرة الاولى لاواجه جمهورا سينمائيا متحمسا للتجربة الجديدة وقد اضاف له الفيلم - المنتهي توا - حماسا فوق ما اتى به ,

لم يأخذ مني الامر سوى دقائق لأدرك فداحة الامر ومرارة ما خلف كلماتي ,

لقد خرج الامر تماما خارج اطار السينما لكن لم يكن هناك مجالا للتراجع , لتكمل ما بدأته إذا , ما ان انتهيت حتى قال لي سامح : " قاتلك الله ياحلمي "



الفيلم الذي يحمل ذات عنوان القصيدة والذي يحكي جانبا من أول سنوات حكم الراحل نيلسون مانديلا لجنوب افريقيا بعد خروجه من السجن تم بناء السيناريو الخاص به استنادا إلى كتاب يوثق الوقائع الاصلية بعنوان

"Playing the enemy"



الكتاب من تأليف جون كارلين



وغلاف الكتاب يحمل صورة لنيلسون مانديلا وهو يحمل كأسا بجوار أحد الرياضيين , بينما كُتب تحت العنوان بخط اصغر " نيلسون مانديلا واللعبة التي بنت الامة "



هل خمن أحدكم أي شيء ؟

* * * * * * *

قبل حوالي شهرين فوجئت ذات صباح بخبر اعتقال زميل لنا بلا تهمة حقيقية تقريبا ,

دخلت صفحته لأتأكد من الخبر فوجدت انه لم يكتب احدهم اي شيء بعد لكن ما كان بانتظاري هناك كان شيئا آخر أكثر الما ,

كانت قد مضت على اعتقاله ساعات قلائل فكانت الصفحة مازالت تحمل بصماته التي كان آخرها منشور ( شماتة ) في أحد النشطاء الذين حُكم عليهم بالسجن - قبل أيام - مرفقا شماتته بصورة ضوئية لمنشور لذات الناشط يشمت فيها بدوره في مناسبة سابقة من الفئة التي يناصبها العداء في يوم كرب لهم لانهم كانوا قد شمتوا فيه سابقا في يوم كان قد اااااا....

وهكذا يمكنك ان تعود بظهرك في ذاكرة متسخة بالضغائن لمدة ثلاث سنوات دون ان تصادف اي شيء غريب .



لولا انني اصبت بالصداع خلال النظر في مشهد المرايا المتقابلة هذا لكنت بدوري ربطت طرف الخيط الخاص بي في ذيل خيوطهم ودرت في ذات الفلك دون الشعور بأي شيء غريب .

* * * * * * *

عشرة أعوام قضاها اينشتاين يفكر ويتأمل محاولا وضع المعادلة المحركة لهذا الكون ,

بين عامي 1906 و 1916 وخلال آلاف من دروب التفكير ودون كتابة سطر واحد ومرورا بعبارته الشهيرة " اما انني اسير نحو المجد او ان الله اراد لي الضلال والمزيد منه " ,

حتى خرج لنا بمعادلته التي لا تقاوم حول حساب المسارات المنحنية في اي مكان في الكون بفعل الجاذبية ,

ان كنت ترى الامر ملتبسا بعض الشيء سأقول لك بكل بساطة سطرا واحدا



" اذا القيت اي جسيم في الفراغ فإنه - وعلى غير المتوقع - سيتخذ مسارا منحنيا ولن يسير في خط مستقيم كما تظن بل ويتعين عليك ان تكون اينشتاين لتتنبأ به "



يقول اينشتاين معلقا على هذا السطر

" لنتخيل أن هناك حشرة عمياء تسير على جذع شجرة منحني تحسب انها تسير للأمام في خط مستقيم , كل ما هنالك انني تمكنت من ادراك أن الجذع منحني فحسب "



الخلاصة انه ليس هناك مسار مستقيم في هذا العالم , نحن نسير متعاقبين في مسارات منحنية معدة سلفا وان كنا لا ندري .

* * * * * * *
في أوائل التسعينات خرج نيلسون مانديلا بعد سبعة وعشرين عاما من السجن ليقول لاتباعه القوا اسلحتكم في البحر ودعونا نثبت لهم انهم كانوا على خطأ عندما عاملونا بهذه الطريقة ,

وسط كل حملات التشكيك والتوقعات بعدم القدرة على ادارة الدولة كان نيلسون مانديلا يؤمن بشيء واحد



" إذا لم تتغير قناعاتي حسبما تتغير الظروف فكيف لي ان اطلب من الجميع أن يفعل ذلك "



لكن الكتاب الذي يحمل عنوانا عبقريا للغاية لم يكن يحكي عن ذلك



الكتاب كان يحكي عن ( الرجبي ) لعبة السادة البيض التي سوف تستضيف جنوب افريقيا منافسات كأس العالم فيها بينما يحاول المسؤلون الجدد - سود البشرة - التنكيل بأعدائهم القدامى بتسريح الفريق وبناء اخر جديد يعبر عن ألوان الدولة الجديدة ,

الامر يبدو منطقيا تماما وسيتم وفقا لاجراءات قانونية كذلك ,

لكن الرئيس الذي كان - ككل اسود - يشجع كل خصوم الفريق محل النزاع طوال مدة سجنه فقط كي يضايق سجانيه البيض ادرك فداحة الامر وتدخل ليمنعه بشكل غير قانوني معقبا بأن الانتصارات الصغيرة هذه سوف لا تكسبكم سوى عداوات كبيرة لن تفيدنا في بناء دولتنا ,

دعونا نثبت لهم خطأ مخاوفهم من وصولنا للحكم

الفيلم ينتهي كما يحكي الكتاب بالتفاف الشعب كله حول منتخب الرجبي الذي كان يمثل العنصرية بكل مساوئها لعقود طويلة .

* * * * * * *

كما حكى اينشتاين تماما عن تأثير الاجسام الكبيرة في الفراغ الممتد نسير نحن على غير هدى حاسبين اننا نمشي للأمام

يقول اينشتاين ببساطة ان الاجسام الكبيرة تقوم بإحناء الفراغ حولها مجبرة كل المحيطات ان تسير في مسارات محددة ,



لذا يسير كل شيء بأريحية تامة في مسارات معوجة بينما يحسب انه يمشي للأمام


هناك قوة ما خفية لا نعرف كنهها تفعل ذات الشيء معنا


لذا تسمع بغير خجل عن عبارات مثل ( ايه اللي وداهم هناك ) بينما يحق لقائلها الذهاب بكل حرية اذا اراد هو ذلك

طالما انت في موقف القوة يمكنك ان تقول وتفعل اي شيء



يمكنك ان تسمع عن قانون لحرمان الخصوم من ممارسة حقوقهم بينما لم يدر بخلده انه كان بالامس يعاني من ذات الشيء



يمكنك ايضا تستخدم ايدولوجياتك لقتل خصومك بكل اريحية متذرعا بذرائع واهية لاتقنع طفلا دون ان تفكر ان ابادة الافكار غير وارد على الاطلاق

من قال لكم ان الدول تبنى على جثث الخصوم مهما كان جرمهم

سوف تدورون في ذات المسار المنحني لقرون قادمة ما لم تفهموا كيف يسير الكون ,

ما لن يترجمه جوجل بدقة فيما يخص نيلسون مانديلا هو ببساطة عنوان الكتاب



" Playing the enemy "



فقط لأن الامر فلسفيا وليس لغويا



أن تلعب دور العدو ,

أن تجلس مكانه ,

أن تملك قدراته وسلطاته التي تملكها ومارسها عليك يوما ما ,

ان تسكن مساكن الذين ظلموا ,



هذه ليست بكائية ,

لأن النهاية لم تكتب بعد لكنها محاولة لتقريب أمر ما للذهن - لذهني انا على الاقل -

" كل الحكاية ان مياها كثيرة قد جرت في اراض لم يعدها الدهر لتصبح مجرا لنهر من الاساس لذا فلن تصل لابعد مما بدأت منه ولن تذهب لاي جهة على اي حال "



يمكننا ان نبدأ من تلك الحقيقة لو اردنا الخروج من اسار تلك المعضلة



كل عام وانتم بكل الخير



دمتم في حفظ الله



أحمد حلمي



البحيرة



27/6/2014

0 التعليقات

هدى - قصة قصيرة


.

تحفظ قدماها الارصفة ,
لذا , لم يضطرها الزحام عندما اسدلت غطاء رأسها على وجهها كي تعيد تعديل وضعه - كما ودت من داخلها ان تعدل اوضاعا كثر اضناها طول الميل - أن تتوقف .
تحت شمس الظهيرة القائظة وبسنوات عمرها التي تجاوزت اصابع اليد الواحدة بقليل كانت تعرف وجهتها جيدا , واصلت سيرها بين المسافرين فلم يمنع عيناها ما غطاهما من إبصار الدرب كما منعت أثار الزمن التي تتابعت على جمال ثوبها من رؤية الحاضر ,
عاندتها على غير ما انتظرت نسمات الظهيرة النادرة فأخرت عملية الهندمة - المحدودة الاثر - وزادتها تعقيدا لكنها ما اثنتها ولا اعاقتها عن مسارها المرسوم سلفا .

توقفت قدماها تلقائيا في الموضع المنشود بينما كانت يداها الدقيقتان تواصلان ما بدأتاه منذ برهة مضافا اليه مقاومة رياحا كثر اهونها ما هب منذ قليل ,
ما لم تحسب له حسابا - وسط كل هذا الصخب - انني كنت أرقبها من البداية .

عندما اطل وجهها - الذي لم تفلح الاوضاع المائلة ولا شمس الظهيرة ولا الرياح المفاجئة ولا حتى آثار تتابع الزمن الغاشم في اخفاء جماله الهادئ - من تحت غطاء رأسها ورفعت عينيها وهمت بتأدية حركات آلية - باغتت بها كل المسافرين لتلفت انتباههم - كنت هنالك انتظر .

لثانية او لجزء منها اعتلت وجهها نظرة ارتباك من أخل بمتطلباته الوظيفية , كمذيعة اكتشفت انها على الهواء بينما كانت - لاتزال - تعدل من زينتها , تحركت مقلتاها بقلق دفين ثم غمرت وجهها وقلبي والرصيف والحقائب والمسافرين والقطارات وشمس الظهيرة ورياح الزمن بأروع ابتسامة خجل ممكنة , وأجابت بصوت هامس - عندما سألتها عن اسمها - قبل ان تأخذ القليل مغموسا بكل تعاطفي معها وترحل
" هدى "


أحمد حلمي

أسيوط

10/6/2014

0 التعليقات

متتالية - قصة قصيرة

بداية



كان يمقت كل البدايات الجديدة بقدر كرهه للنهايات الموجعة ,

ود لو أن فصول واقعه تصير كأحلامه , تبدأ كلها من المنتصف متجاوزة كل البدايات السخيفة ,

يجيد السباحة لكنه يكره الشواطئ ,

اضطره ذلك للتعايش مع كل تفاصيل حياته التي يود أن يستبدلها بأخرى جديدة ,

تجاهل كل ما برق حوله لمجرد انه يحتاج فقط لبداية كي يقترب ,



" في البدء كانت الكلمة "



يمكنه أن يتكلم ليوم يبعثون لكن ليس في البدء ,

تبا ,



لماذا لم يكن ذلك في المنتصف ,



هكذا كان يحدث نفسه كلما احتاج لبادئة ,



حتى جاء اليوم الذي ملت فيه الصمت ,

فكانت هي البادئة ,

يومها , احب كل الشواطئ وود لو يبقى في بداية ابدية لا يبرحها



........



منتصف





يقف في منتصف حياته - أو هكذا يظن - ممسكا بنهايات كل الخيوط التي تقطعت بداياتها تباعا أو اوشكت ,

يدرك - عندما يحاول أن يتشبث بها كي يجد الطريق , يبصر الدرب , يتحسس الخطو أو يستطلع وجهته - بأنه صار - بلا أدنى مواربة - قابضا على العدم ,

يبحث عنهم ,

كل من تقاطعت دروبهم بدربه فأنارها ورحل , فارتحلوا ,

تتراءى له أطيافهم ,

يرفع يده ,

يشير نحو اللاشئ , يجاهد كي يول فارا في أي إتجاه آخر فلا يستطيع ,

يتمنى لو أنه في بداية أي شئ جديد غير ما أفنى فيه نصف عمره - أو هكذا يظن -

يستسلم مجهدا لطريقه الذي رُسم سلفا كي ينتهي بعد منتصف عمره بخطوتين ...

أو هكذا كان يظن انه المنتصف .



.........



نهاية



لو أن حياته كانت آلة ميكانيكية فهناك حتما ترسا كبيرا منها قد فُقِد , وهو ما اورثه عدم اتساق قاتل في وظائفه الانسانية ,

لايدري كيف أمكنه احتمال الامر حتى الان ,

كيف له ان يرى تلك الهالة التي طالما احاطهم بها قد احيطوا بها الان من الجميع بينما يقف هو غير بعيد ليشاهد الحدث الذي طالما تمناه - ربما اكثر منهم - يتجاوزه ببطء مؤرق غير عابئ بوجوده ,

ربما هي متلازمة عدم تصديق ان الحياة ستمضي حتما بعد رحيلنا ولن تنتظر ولن تتوقف ولن يهتز لها اي طرف ,

هذا اقرب شئ لما هو فيه الان ,

وكان ليتقبله راضيا فقط لو فهم ,

كيف تم قتله بكل هذا التهذيب والطمأنينة وراحة الضمير



أحمد حلمي

ابريل 2014

0 التعليقات

أرض شديدة الانحدار

أن تحتار لماذا تكتب تلك مشكلة كبرى لمن يعد الكتابة افرازا طبيعيا لا يحتاج لمبررات ,

لكن المشكلة الأكبر أن تقع بين ثنائية الواقع الذي لا تستطيع تغييره والحدث الذي لا يمكنك تجاهله في نفس الوقت , عندها تصير الكتابة اشبه بعزف مقطوعة موسيقية بأظافرك على حائط خشن ,

هي مجرد مقطوعة قديمة عُزفت آلاف المرات , ليس هناك اي جديد سوى انك ستجرح آذان السامعين بطريقة عزفك البغيضة , مدعيا انك تعيد ترتيب الواقع المبعثر ,

انا لا اصدق ان اعود لأحكي عن صعوبة الدفاع خارج الأرض وان اهل مكة ادرى بشعابها , والكرات العرضية اقصر طريق للمرمى , واتطرق لضرورة تشجيع المنتخب الالماني في يونيو القادم لأنهم لايخسرون الا ما يريدون - ان ارادوا ذلك - ,

سيبدو الامر عبثيا جدا ,

لو كنت مكاني ,

لاتجرب هذا في المنزل .

* * * * * * * * * *

في آخر مقال كتبته عن الوضع الحالي حكيت عن احدى ممالك الحكم العسكري في امريكا اللاتينية التي تعتبر ساحة خلفية للمخابرات الامريكية وارضا خصبة للانقلابات كحل سحري لاي نظام لايرضخ - طواعية - للضغوط , وهو ما أدى لاختلاط الامر على بعض القراء وذهب ظن بعضهم الى انني احكي عما حدث في شيلي ابان حكم سيلفادور اللندي ,

لكن هذا تحديدا لا تخطئه عين مدقق ,

فقط كنت ادخره لحين تتسارع الاحداث ,

لن أحكي هنا عن التاريخ الذي يخرج لسانه مرارا لانها باتت نكتة سخيفة قيلت آلاف المرات حتى انها صارت لا تستجلب اي نوع من ردود الافعال , لكنني وقعت - بالصدفة - على شئ ألطف ,

يقول الاديب الامريكي مارك توين " التاريخ لايعيد نفسه , انما هو يشبه قصيدة متعددة القوافي "

أظن ان هذا قد يقرب الامر كثيرا للأذهان .

دعونا نقرأ قصيدتنا اذا .
* * * * * * * * * *

في مقال له من يومين تعجب الكاتب الصحفي أحمد جمال سعد الدين من قدرات سحرية عجيبة لجملة ذات مقطعين , كيف لها ان تفعل كل تلك الافاعيل ,

" بغض النظر "

يمكنك ان تبدأ اي حوار غير منطقي تود ان تتجاهل مقدماته المنطقية - التي لا تود الاعتداد بها - بتلك الجملة , وبهذا تكون قد ارسلت كل ما لا يوافق هواك الى سلة المهملات ( وتبدأ تعد من اول خمسة مثلا اذا كان الاربعة الاوائل مش على مزاج اهلك )

ياسلام

متى اصبحت الحياة بتلك البساطة ,

كنت احسبها اكثر تعقيدا ,

لكن ما لفت انتباهي انه يمكن لعب ذات اللعبة بالطريقة العكسية ,

اي انه مثلا يمكن ان نقول : بغض النظر عن الشعبية الجارفة لسيادة المشير وأنه هو الوجه المناسب للمرحلة الحالية وانه لا يوجد هنالك من يصلح اساسا بعد فشل كل القوى السياسية في افراز مرشح ( عليه القيمة ) وان وضع السيسي في الدولة بعد الانتخابات ان لم يرشح نفسه سيصبح مهينا لأي رئيس حتى ان كان مرسلا من السماء ( كده تمام رمينا كل اللي مش عايزينه ) , فإن - ( وسع بقى كده ) -

الدولة المصرية بذلك تسير على أرض شديدة الانحدار - بلا اي فرصة للتوقف او التهدئة - نحو هاوية الحكم العسكري الاستبدادي الابدي الصريح كسيناريو لطيف بوجود دولة على الاقل , او ان ذلك المنحدر يتجه نحو اللاشئ من اللاشئ اصلا .
( حد يحب يلعب بغض النظر تاني )

* * * * * * * * * *
شيلي

في العام 1970 وصل الزعيم اليساري الانتماء سيلفادور اللندي لسدة الحكم في البلاد بالانتخاب و بعد مرور ما يقرب من نصف مدته الرئاسية المقدرة بست سنوات كانت المخابرات الامريكية قد استنفذت كل وسائل الضغط ليرجع عن سياسته الاشتراكية التي لا تروق لهم فلم يبق الا ان يتم اللجوء للعبة القديمة المعتادة , بين قوسين ( انقلاب عسكري )

لكن قائد الجيش في ذلك الوقت رفض ان يلوث تاريخه واستقال وترك اللعبة برمتها .

في 21 اغسطس لعام 1973 تم تعيين الجنرال اوجست بينوشيه من قبل الرئيس اللندي كقائد للجيش بعدها بثلاثة اسابيع فقط تحركت فرقتين للمدرعات والمشاه بقيادة نفس ذات الجنرال لمحاصرة القصر الرئاسي ومطالبة الرئيس بالاستقالة ,

( الراجل كبرت ف دماغه ولبس اللبس الرسمي وطلع قالهم الشرعية مرتين تلاتة راحوا قتلوه قبل مايقول الرابعة ) ,

واجتاحت القوات للقصر ونصب بينوشيه نفسه حاكما للبلاد في الحادي عشر من سبتمبر لعام 1973 .

* * * * * * * * * *
فيما مضى كتبت ساخرا عن مكتسبات الثورة العظيمة بعد انسحاب الاستاذ الجامعي ذو الشعر المنكوش من لجنة كتابة الدستور ضاربا بعرض الحائط كل آمال من يمثلهم أن الثورة على الاقل أكسبته فستان زفاف عاري الكتفين , وكأنه كان بحاجة لأن يشعل البوعزيزي النار في نفسه كي يتزوج هو من نصف ممثلة ,

لكنني ادركت الان كم كنت ساذجا حينما حسدته على مكتسباته التافهة ,

المكتسبات الحقيقية لم تكن قد ظهرت بعد ,

حين يتحول اللواء الخمسيني الى مشير ثم الى رئيس في ظرف عام ونصف فتلك هي المكتسبات بحق ,

اذا نحن مجرد جمهور متفرجين قرر المخرج ان يشركنا في الصراع بين ابطاله فقط لمجرد ملء فراغات محتملة في حبكته الدرامية الساذجة السخيفة المملة ,

عظيم جدا ,
اذا هذه النهاية لا تروق لي حتى ان كانت تروق ل 98.1 بالمائة من المتفرجين داخل وخارج المسرح .

* * * * * * * * * *
أول ما فعله الجنرال اوجست بينوشيه بعد ان استقر له الحكم كان - إحم - تعديل الدستور بما يضمن له البقاء في منصبه لثمان سنوات بدل من ستة , ثم اجراء استفتاء على بقاءه بدلا من اجراء انتخابات , ثم حصن نفسه ضد المحاكمات باعتباره عضو شرفي بالبرلمان مدى الحياة ,

ثم توالت الانتهاكات بطريقة من ليس معنا فهو ضدنا ولماذا لاتقتل كل معارضينك كي يعيش مؤيدينك ثم لماذا لا تقتل مؤيدينك ايضا كي تعيش انت وحدك حتى اضرت الولايات المتحدة حليفه الاول ان ترفع يدها عنه استشعارا للحرج بعد تزايد ادانة تقارير حقوق الانسان له ولحكومته القمعية حتى ان ماركيز وثق بعضا منها في روايته " مهمة سرية في شيلي " ثم اضطر تحت الضغوط ان يجري استفتاءا على بقاءه الابدي في عام 1988 والذي خسره بفارق ضئيل واضطر ان يعود لموقعه لقائد للجيش ويسلم السلطة لرئيس آخر في عام 1990 وتمت ملاحقته قضائيا حتى وفاته بعد تعديل مواد كانت تحصنه .
بقى ان اقول انه حتى اليوم مؤيدو بينوشيه ينسبون له فضل الخلاص من الشيوعية والجماعات الارهابية في بدايات حكمه .
* * * * * * * * * *
ﻫﺎ ﻫﻢُ ﺍﻟﺠُﺒﻨﺎﺀُ ﻳﻔﺮّﻭﻥ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺴَّﻔﻴﻨﻪْ.

ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛُﻨﺖُ..

ﻛﺎﻥَ ﺷﺒﺎﺏُ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔْ

ﻳﻠﺠﻤﻮﻥَ ﺟﻮﺍﺩَ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺠَﻤُﻮﺡْ

ﻳﻨﻘﻠﻮﻥَ ﺍﻟﻤِﻴﺎﻩَ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜَﺘﻔﻴﻦ.

ﻭﻳﺴﺘﺒﻘﻮﻥَ ﺍﻟﺰﻣﻦْ

ﻳﺒﺘﻨﻮﻥَ ﺳُﺪﻭﺩ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭﺓِ

ﻋَﻠَّﻬﻢ ﻳُﻨﻘﺬﻭﻥَ ﻣِﻬﺎﺩَ ﺍﻟﺼِّﺒﺎ ﻭﺍﻟﺤﻀﺎﺭﻩ

ﻋﻠَّﻬﻢ ﻳُﻨﻘﺬﻭﻥَ.. ﺍﻟﻮﻃﻦْ!

.. ﺻﺎﺡَ ﺑﻲ ﺳﻴﺪُ ﺍﻟﻔُﻠﻚِ - ﻗﺒﻞ ﺣُﻠﻮﻝِ

ﺍﻟﺴَّﻜﻴﻨﻪْ:

" ﺍﻧﺞِ ﻣﻦ ﺑﻠﺪٍ.. ﻟﻢْ ﺗﻌﺪْ ﻓﻴﻪِ ﺭﻭﺡْ!"

امل دنقل من قصيدة طوفان نوح
...................

اذا كانت دول امريكا اللاتينية هي الساحة الخلفية للمخابرات الامريكية فلستم بحاجة لأن أخبركم اين تقع الساحة الامامية ,

من يصدق أن الولايات المتحدة مازالت " تشعر بقلق " كما هي العادة في تلك المواقف او كما تصور لنا وسائل الاعلام الحكومي او التي تسعى لنيل الرضا الحكومي بأن الولايات المتحدة تخشى عبد الناصر الجديد في مصر , فبشره بالنعيم الابدي في الشقاوة , الولايات المتحدة ليس لها حليف ابدي او عدو ابدي , هي فقط تعرف اللحظة المناسبة التي تغير فيها مواقفها في القضايا المصيرية , راجع موقفها من شاه ايران ومبارك نفسه لتعرف ان مرسي كان مجرد شخص تخطاه الواقع ,

من يغني تسلم الايادي الآن لا يدري أن سقف المطالب الذي تعاظم بعناد السلطات المتعاقبة تم اختزاله حاليا في مجرد الخلاص من الاخوان ,

من ينادي كمل جميلك لن يفيق الا عندما يتجه النطام الحاكم للخلاص من مؤيديه الشكليين حين يستتب له الامر , يد الظلم لاتفرق بين مؤيد ومعارض بالمناسبة ,

المصيبة انك لا تستطيع ان تمارس وصاية على شعب مهما تدنت درجة وعيه او ثقافته ,
فقط يمكنك ان تنجو بنفسك او تأمل بأنك على خطأ كبير ,
تسارع الاحداث تفسره قوانين الفيزياء بأننا نسير على أرض شديدة الانحدار , وكلما تسارعت المشاهد فاعلم ان الركب اقترب من نهاية المنحدر دامهد كل الركاب والسيارة وسائقها ومالكها كذلك وسنكتشف ان السيد المخلص - عدم اللامؤاخذة - (مابيعرفش يوقفها)
وانه لا احد قادر على ايقاف ما سيحدث ,
الامر لن يستثني احدا فلا تضع رقبتك على محيط دائرة تدور على الجميع

دمتم في حفظ الله


أحمد حلمي

البحيرة

31/ 1 / 2014

0 التعليقات

فيروزيات كونية


مقدمة موسيقية مهيبة وقصيرة ومحببة للنفس من الوتريات موحية بجو المعابد الرومانية القديمة ,

تضعك بهدوء خاطف وسط حدث جلل لن ينتظرك لتتهيأ له بالقدر الكافي ابدا مهما فعلت ,

الى ان تنقشع كل الغيوم دفعة واحدة آخذة معها كل ما تبقى من انتباهك وانفاسك ودقات قلبك كذلك



°°°°°°°°°°°°



عندي ثقة فيك

عندي أمل فيك

وبيكفي

شو بدك يعني اكتر بعد فيك



°°°°°°°°°°°°°°°°




هذا هو اللون الذي لا يظهر في التحليل الطيفي للضوء الابيض فلا يراه المبصرون اصلا , فقط يمكنهم الشعور بأثره ,


فكيف تصفه لغير المبصرين اذا ,


اذا شدت جارة القمر كيف يمكنك ان تختزل الامر في كلمات .


لذا سنفترض اننا نخاطب المبصرين فحسب .



* * * * * * *

منذ مايقرب من ستة اشهر وانا انوي كتابة مقال عن أحد الافلام لكن ببساطة يقف هانز زيمار بموسيقاه ليقول لي

" كيف ستتجاهلني اذا وكيف ستكتبني "

وبدا الامر - ومازال - محيرا للغاية ,


لكن مع فيروز الامر يختلف ,

الامر تجاوز الموسيقى او الغناء او المزج بينهما بمراحل ,

يمكنك ان تصف الامر - بضمير مستريح تماما - انه ارض جديدة لم يطأها بشري من قبل , جزر جديدة تماما , يحيا بها مخلوقات لم تبصرها عين من قبل , هواء جديد لم تستنشقه رئة من قبل , لحن لم تعزفه آلة من قبل ,


شدو لم يمر بحنجرة أحدهم من قبل ولم تسمعه أذن من قبل ,


كيف يمكنك ان تذوب عشقا بينما انت فقط لا تفعل شيئا سوى الانصات لأغنية سمعتها آلاف المرات ,

هذا ما يحدث عندما يمتزج صوتها بالموسيقى في تناغم لا مثيل له .



* * * * * * *



الحقيقة ان هناك علاقة لا افهمها بين الوتريات وصوت فيروز الرائع ,

بعد فترة ليست بالقليلة ستدرك انك غير قادر على فصل المخلوط السحري - الذي يطير بك في طبقات النشوة العليا - عن بعضه البعض ,

حتى انك قد تبدأ بسماع اوركسترا كامل يسري في اوصالك ناشرا خدرا لذيذا بمجرد ان تبدأ في دندنة كلمات اي اغنية لها بمفردك



°°°°°°°°°°°


عندي حلم فيك

عندي ولع فيك

وبيكفي

شو بدك انه يعني موت فيك



°°°°°°°°°°°°°°

صيف العام 1992 كنت لا اعي بعد ماذا تعني هذه الكلمات عندما اطلقها ابي لتعطر الهواء من حولنا للمرة الاولى ,

لكني ادركت بمرور الايام انها ترسبت بداخلي فلا استطيع منها فكاكا ,

كيف لطفل كبر على نغمات فيروز أن يتجاهل كل هذه الروعة عندما تنمو مداركه ويبدأ في إلقاء الأسئلة المرتبطة بوظائف أخرى للقلب ,


كيف قالت هذه الكلمات البسيطة بهذه الروعة يوما ما ولم ينتفض الكون واقفا ليلقي التحية ,


هذا شئ آخر لا افهمه ,


هل كنتم بكامل وعيكم عندما قالت ذلك لأول مرة ولم ينحرف مدار القمر طربا بما وصله من ارضنا من نغمات



* * * * * *

والله راح موت فيك

صدق اذا فيك

بيكفي

شو بدك مني اذا متت فيك


هنا تبدأ بالتسليم تماما بأنها تحدثك انت وتسلم لها بكل جوارحك مصدقا أو انك تبدأ بلوم ذلك المخاطب الذي لا يكفيه كل ذلك الحب الاعمى الذي لا يبغي سوى التصديق غاية ,

هنا ودون ان تشعر وبهدوء شديد الصخب تتصاعد نبرات صوتها بنفاذ صبر يلاقي في النفس هوى



معقول فيه اكتر

انا ماعندي أكتر

كل الجمل يعني عم تنتهي فيك

عندي ثقة فيك

وبيكفي



وتترك يدك في الوقت الذي لا تعرف فيه كيف تحلق منفردا وسط الاشجار الاعالية بينما يعزف الكون ذاته لحنا تحسبه لن ينتهي ابدا وتجد نفسك بشكل ما متورطا في توجيه نغماته لتوائم ما انت فيه بما انت فيه ,

إلى أن يظهر ذات الصوت الذي لم تعرف كنهه بعد ليوقظك من شرودك



حبيتك متل ما حدا حب

ولا بيوم راح بيحب

وانت شايفها عادية

ومش بها الاهمية

بجرب مابفهم شو علقني بس فيك



كيف تبلغ درجات السلام النفسي هذا الحد لمجرد سماع اغنية لكن ما انت فيه لايسمح بهذه الفلسفة حاليا

بينما تتلاحق انفاسك لاهثة وراء كل هذه الضربات الموجهة لوجدانك عابرة كل اوصال جسدك تباغتك بما كنت تخشى وجوده من اللحظة الاولى



بكتب شعر فيك

بكتب نثر فيك

وبيكفي

شو ممكن يعني اكتب بعد فيك



هنا لم تعد لك اي سيطرة على اي شئ يخصك



الان انت مهيأ كي تتصالح مع كونك للأبد

ربما انت لا تشعر بوجودك المادي اصلا

ربما صرت طيفا الآن

ربما انت مجرد نغمة موسيقية ذابت وسط هذا السيل المتدفق ,

فقط تبغي لو انك ترسو حيث تبغي فلا تضيع سدى في رحلة وجدانية لا تريد لها ان تنتهي .



اغرب ما في الامر ان تكتشف ان كل هذا لم يستغرق سوى اربعة دقائق , تنهيها بهدوء ريشة تحط بهدوء على جناح الريح آخذة أعمق انفاسك معها تاركة كل الثقة فيك

ما كل الجمل والحكي والكلام فيك

صباحكم جميل




أحمد حلمي


اسيوط


17 / 1 / 2014