لا أحد ينام في الاتحادية

كان يجلس في مرمى بصري بعد أن كلَّ من حمل المياه إلى أقرانه من المسجد القريب من الميدان , تبدو على ثيابه ويديه آثار كد يومي ,

عيناه - التي تحمل نظرة خواء ارهقها طول الانتظار - كانت تحمل -كذلك- أملا تدلى فكادت يداه أن تتلمسه , لكنه يعزف عن ذلك خشية أن يكون سرابا فيضيع ,
فاكتفى بأن يملأ عينيه به , استفقت من تأملي لحاله عندما رأيته يتحرك لا إراديا ليلبي نداءا لا يعرف ماهيته ,

عندما اصطفت الصفوف وعانقت الأيدي الأكتاف ذاب بينهم فلم يلفظوه كما هي عادتهم , بعد أقل من دقيقة كان يرقص طربا دون حتى أن يفهم أو يسمع ,

لم يغب عن مخيلتي وإن غاب عن بصري والسؤال الذي ألح على ذهني بعد أن فرغت من احتفالاتي سريعا هو :

ما الذي أخرجه ؟

ما الذي يعرفه عن قواعد اللعبة حتى يضحي بجزء من قوت يومه ليشارك في ما لا يعرف مداه ولا غايته ,



أراهن أنه لم يخرج لأي إنتخابات أو إستفتاءات أو حتى تظاهرة من قبل , ولا يعنيه الامر حتى ,

أراهن أنه لم يفهم أو يعرف أي شئ عن الاعلان الدستوري ولا الدستور ذاته ولا ازمة السد ولا حتى سمع خطابا للرئيس - وقتها - هذا مجرد مواطن بسيط وجوده في الميدان لساعات المساء يحرمه ساعات الراحة اليومية ,

هذا رجل خرج ببساطة ليرفض - دون حتى أن يعرف - مايسميه علم النفس " الانكار التام "

السواد الاعظم من الشعب المصري المتمثل في الطبقة المتوسطة وتفرعاتها فوجئت بإحباط متنامي لتباين فج يتزايد بين ماهو جاري وما كان مأمولا في حين أن السلطة الحاكمة ومن والاها تسطح الامر وتختزله حينا وتنفيه جملة وتفصيلا في أحيان كثيرة .



التاريخ ضمن الغنائم يكتبه المنتصرون



لكنني أحاول أن ألزم نفسي مقاعد المتفرجين وأنا أكتب فلا أرقص مثل لميس بينما أكتب توثيقيا لقراء أحترمهم وأرتجي منهم المثل ,

اليقين المطلق يحمله الرسل ,

لكن عامة الشعب يتحركون وفق تلاقي الأرادات ليصنعوا وجدانا وعقلا جمعيا وصفه جوستاف لو بون في كتابه " سيكولوجية الجماهير " بأنه محدود الذكاء , وأكد في ذلك أنه مهما كانت نسب فطنة الأفراد - المكونين للمجموع - كبيرة فإن المحصلة تصبح أقل من المتوسط , الأمر الذي يستحيل معه التفاوض ضربا من الخيال ,



وهو ما لا يعلمه الرئيس الشرعي المخلوع وجماعته بكل تأكيد ,



كل الخطوات التي اتخذها الرئيس لتفادي غضبا شعبيا خلال عام كامل كانت في الاتجاه الخاطئ , واستند فيها لحلفاء لايمكن الوثوق بهم , لم يفطن سيادته أن الرهان الأكبر كان لابد وأن يكون على المواطن المطحون الذي صورته لكم - في بداية مقالي - يحتفل بحماس منقطع النظير لدى إذاعة بيان الجيش ,

ما حدث وإن كان أكبر كثيرا من المتوقع إلا أنه كان يرسل مقدمات منذ شهور ,

وإن كان اليقين يحمله الرسل كما قلت سلفا إلا أن هناك علامات على الطريق ,



هناك لقاء ل د . منال عمر مدته ساعة إلا الربع تتحدث عن توارث الإنتهاك بطريقة علمية شيقة كعادتها دوما , ينتهي كلامها المحبط - وقتها - بانفراجة نقلتها لي شخصيا ,

قالت أن تواتر الانتهاك يجعل ردة فعل المُنتهك في نهاية الأمر غير قابلة للإحتواء ,



وهو ما اتضح جليا في الفيلم القصير الذي تم تصويره من الطائرة العسكرية ليثبت لسيادة الرئيس أن من خرجوا ليسوا محض فلول واذناب واظافر وان عددهم تجاوز المائة ألف - الرقم ذكره يقينا - وأن المعارضة ليست مجرد " خمسة ستة سبعة تلاتة اربعة " أو تجمع في " حارة مزنوقة " كما وصفنا سيادته قبلا انطلاقا من وهم القوة والشعبية والغطاء الجماهيري والحشد التنظيمي الذي اقنعوا نفسهم به ورفضوا مادونه .



في مقالي السابق ارجعت ما يحدث من ردود افعال عشوائية إلى مبدأ " الحاجة إلى فعل شئ ما " وهو ما تم مهاجمته تماما كما تهاجم كل محاولات هيكل التفسيرية التي تنبأت بما حدث تفصيليا منذ مدة طويلة , ما اتضح لي خلال أسبوع من الشد والشد والشد واللامبالاة هو حالة من التفكير ومحاولة إيجاد حلول داخل قفص مغلق - كنوع من العناد - ورفض تقديم أي تنازلات بل واستثارة الجماهير بخطابات يعاقب القانون على اجزاء كثيرة فيها ,



ببساطة يمكنك أن تطلق على الشهر الماضي يونيو الكارثي ,

كل خطوة كانت تنم عن فشل في إدارة الضغوط والازمات وفشل في استباق الموقف المتفاقم بأجراءات تقلل من حدته وتقلل الغضب المتنامي ,



كل التحذيرات كانت تواجه بمحاولة تقليل وتسفيه معتادة تفسرها رغبة دفينة في رفض تغيير قناعات تتعلق - ويصتدم سواها - بالمصالح ,

ما حدث كان حشدا يعبر عن رفض فئات شعبية لفشل الرئيس المنتخب في تمثيلهم كما كانوا ينشدون ,
حشد لايمكن احتواءه أو تجاهله لكنه كان بحاجة لمسار شبه قانوني تسير من خلاله مطالبه وسط ردود فعل متأخرة ليست متناسبة مع الحدث ,

ماحدث هو عملية تحرير لإرادة شباب لطالما شعر بالقهر والتهميش والاحباط وقلة الحيلة وانعدامها وكسر للقيد الذي فرض عليهم ومحاولات الارهاب الفكري والتثبيط ,
ما حدث هو تحرير من دائرة الغموض والصفقات السرية والتقاء المصالح واحاديث معلبة عن الدولة العميقة التي كانوا يجاهرون بفجرها ويسرون بخطب مودتها ,
ماحدث ملخصه ,
لاتحسبن الصندوق ينفع وحده ,

وأن الرهان على الوقت ما عاد ينفع ونظرية ( دول شوية بلطجية وكلها يومين وهايهتفوا لما يتعبوا وبعدين يمشوا ) ماعادت تأتي أكلها ,

قلت لك سيدي الرئيس منذ شهور في نفس ذات موضعي هذا أن الشعب الذي بنى الهرم لن يدفن رأسه مجددا في الرمال كما تفعل أنت وجماعتك وأنهم قادرين على هدم المقطم ذاته ,

ما قولك بعد أن اتضح لك ولمن يأت بعدك أن الشرعية ليست هرما لتهددنا به وبأن مقولة لويس الرابع عشر ,
" L' etat , ce moi "
أو " الدولة , هي أنا " ليست صحيحة على الأرجح ,

اتضح ايضا ان ادارة الدول تختلف عن ادارة المحلات التجارية ,
وان جنون الاضطهاد لديكم غير مبرر وان اصتدامكم بكل الانظمة التي مرت بكم ناتج عن قصور فيكم وانكم بحاجة لمراجعة ,

واتضح أيضا أنني لم أكن أكتب للعدم منذ مايقرب من عام .

التحية لكل من خرج ليسترد وطنه ,

أتم الله جهدنا على خير ,

وأصلح الأحوال

* * * * *
كل عام وانتم بخير

المقال القادم سيكون الأول في الشهر الكريم ,

سحور أول جمعة - بإذن الرحمن - سيكون بنكهة أدبية مختلفة للغاية ,

آن لي أن أهجر السياسة ولو قليلا

اللهم بلغنا رمضان ,

دمتم في حفظ الله


أحمد حلمي

البحيرة

5/7/2013

0 التعليقات:

إرسال تعليق