حسنا , سنحكي عن ماركيز العظيم ,
في
زيارتي الثانية له والتي لم تكن لرائعته التي لفتت الانتباه لأدب
اللاتينيين ككل - لأن اوانها لم يحن بعد - أصابني الارتباك , وعلى طول
صفحات الرواية كان يتردد في ذهني ذات السؤال : ما هذا الذي يفعله ماركيز
بفن ينتمي تاريخيا للروس ؟ ,
جابرييل جارسيا ماركيز المولود في كولومبيا في العام 1928 والحاصل على
جائزة نوبل في الادب في العام 1982 بدأ حياته كصحفي مغمور ثم كروائي فاشل -
جماهيريا - فروايتيه " عاصفة الاوراق " و " ليس للكولونيل من يكاتبه " لم
تجدا - تقريبا - من يبتاعهما , افلس تماما واضطر لان يبيع اثاث بيته
ليشتري اوراقا ليكتب ما سيجذب انظار العالم اجمع نحو ارض جديدة من الادب لم
تطأها اقدام من قبل , ذلك انه في العام 1967 كان أمام اهم حدث سيغير حياته
للابد , عندما صدرت روايته ذائعة الصيت " مائة عام من العزلة " , وكان
وقتها يعيش في مكسيكو سيتي ولا يجد ثمن تذكرة العودة لوطنه لكن عمله الدؤوب
طيلة ثمانية عشر شهرا بلا توقف تكفلوا بإعادته للحياة , في العام التالي
ولمدة سبعة اعوام عكف على كتابة روايته الاقل شهرة من سابقتها وان كانت كما
يراها هو اعلى قيمة غير انها ليست رواية شعبية , يقول ماركيز عن روايته
التي مُنعت من النشر في معظم ممالك امريكا اللاتينية كإجراء احترازي ثم
افرج عنها بلا سبب سوى انهم لم يروا مبررا لاثارة بلبلة دون داع , رغم انه
كان هناك داع كبير , انه كان يكتب خمس سطور في يوم كامل ثم يرسلهم لسلة
المهملات في اليوم التالي وانها جديرة بأكثر مما نالته " مائة عام من
العزلة " لكنه كان يعرف انها ليست رواية جماهيرية فلن تنال ولو نصف
ماتستحقه , نحكي هنا عن رواية " خريف البطريرك " الصادرة في العام 1975 .
لكنه كان لابد ان نعرف كيف بدأ كل شيء اولا ,
بداية نحن بصدد رواية غنائية , والمصطلح دقيق تماما وغير مجازي بالمرة ,
وفي
ذلك الوقت - وقت كتابة الرواية - لا تُسمع اغان قط في الساحل الكاريبي ,
وانما يُسمع صوت الرصاص , صوت الجوع , صوت المؤامرات , صوت الخيانة , صوت
الانقلابات , صوت المذابح , صوت الدكتاتوريات , صوت الظلم , وصوت الكاريبي
الذي لا يعجبه كل ذاك فيرحل تاركا اياهم , لكن ماركيز عمد لعزف سيمفونية
تأخذ الانفاس من كل هؤلاء ,
الرواية
تدور في زمن غير معروف لكنه مغلق بطريقة تجعلك تدور بين جنباتها تجمع
التفاصيل لتعيد ترتيب المشاهد لتصل لصورة كاملة للأحداث , وهذا اصعب ما
فيها , ان كنت تجد الزمن هو البطل في " مائة عام من العزلة " فالزمن هنا هو
الشخص غير المرئي الذي تنسب له كل احداث الرواية وتقلباتها وصعودها
وهبوطها دون ان يبدي طرف ثوبه , حتى لتشعر أنها آنية الحدوث , لا لا انها
ابدية , ازلية , لم تتجاوز ذات المشهد أم انها تحكي مايزيد عن قرنين ?!
شيء يبعث على الارتباك حقا لكنه ممتع بشكل ما ,
يا
أمي بنثديون الفريدو يا ام روحي ما هذا الذي يحدث في مملكة سأمي الشاسعة
لماذا كُتب علي انا ان ابقى خالدا وسط كل هؤلاء الحمقى الفانين , لماذا لا
تحل لعنتك عليهم فيقاسمونني ما انا فيه من شقاء , لماذا اظل انا هنا حتى
يمر النجم المذنب مرتين , لا لا بل ثلاثة , ثلاث مرات , يا اماه لقد كفت
طيور الكاريبي الحزينة عن الغناء رغم اني اسقيها عسلا كل يوم , في حين ان
صوت صياحها كان يمنع موظفي الديوان من سماع بعضهم البعض , فكان يغطيها كل
يوم ويحمل المصباح , يطمئن على البقرات في الحظيرة , يصعد الى غرفته , يغلق
الرتاجات الثلاثة والمزاليج الثلاثة والدعامات الثلاثة ويعلق مصباحه فوق
الباب لينام ببدلته الكتانية ونجماته ونياشينه ومهمازه الذهبي على الارض
بجوار مكتبه واضعا ذراعه اليمنى تحت رأسه كوسادة فينام العالم كله ويكف
الكون عن الدوران .
ما
حدث في الفقرة السابقة هو مجرد محاكاة لما فعله ماركيز بروايته المعجزة
التي تنامت خيوط روعتها لتصل للقارئ عبر - حتى - الترجمات المختلفة , قرأت
نسخة منقولة من الفرنسية عن الاسبانية فإذا بي اتساءل : ترى كيف كان النص
الاصلي ؟
ماركيز
في روايته التي تحكي عن ميراث الدكتاتوريات اللاتينية في مايقرب من 300
صفحة جاعلا إياها لا نهائية الصفحات تصلح لان تُقرأ من اي نقطة , عدد
الصفحات المحدود كان يتمدد بشكل ملحوظ بين التفاصيل الكثيرة ليستوعب زمنا
لانهائي , يسير بين ردهات عقل جنرال ذو نفوذ ابدي يرى العالم من منظوره ,
يتلمس ذكرياته , يرويها , يصورها من الخارج , يهبط في إحداها يحكي سنوات
حدوثها بالتفصيل - نعم سنوات - تتباعد الاشياء , يلتقط الحدث احد العابرين
ليكمله ثم يسلمه لآخر ثم يروي الحدث نفسه بنفسه , ثم يعود الحكي لفم
الجنرال مرة اخرى , لا بل يعود لعينيه , تحكي لنا عينيه كل ما يختلج في
نفسه , فماركيز لايدع شخوصه تحكي ابدا , هم لا يقولون , وانما يرون وانت
ترى بعيونهم .
اماه بنثديون الفريدو يا ام موتي , هل يدرك هؤلاء الحمقى الذين يطالبونني
بتسمية من يخلفني انني حقا لا اموت , لقد قلت لهم انني سأموت لثلاثة ايام
فقط ثم اعود لأعدم كل هؤلاء الخونة الذين رقصوا فوق جثتي فرحا ولسوف تتحول
اجراس الاحتفال بموتي لاجراس احتفال بعودتي .
******
في
بداية روايته الممتعة حد الايلام يُعرف ماركيز الدكتاتوريات والظلم
والاستعباد عن طريق عرض افكار البسطاء الساذجة عن حاكمهم , يقول ببساطة -
دون ان يقول - ان الاستعباد هو ارث للعقول وليس للاجساد ,
انظروا معي :
هل
كان هناك يوما , نحن لانعرف يقينا , لكن عندما انقضت العقبان على نوافذ
القصر الرئاسي في صبيحة احد ايام خريفه الاخير وسمعنا اصوات حوافر حيوانات
تجري بالداخل , ثم رأينا بقرة في الشرفة التي كان يطل علينا منها ليلقي
خطاباته المكررة في ازمان سحيقة لا يذكرها اكبرنا , عندها لم يجرؤ احدنا
على التصديق ,ليس لاننا نعرف ان البقر لايصعد السلالم ولكن لاننا نعرف انه
سيد سلطته الابدية , بقرة في شرفة الوطن , ياللكارثة , لكن خاطرا مثل موته
لم يمر بعقولنا اذ ان الشمس كانت تشرق والحياة كانت تتواصل , والبريد كان
يصل في موعده وكانت جوقة البلدية تعزف فالسا كئيبا في ايام السبت وكان
موسيقيون مسنون يحلون محل المتوفين , لا انه لا يموت ,
*****
الرواية
تقريبا عبارة عن صولو طويل من العزف احادي النغمة تقاطعه رؤى وروايات
واحداث جانبية عارضة تخص الوطن , الوطن الذي لا يعني شيئا على الاطلاق ,
الوطن , اها , بلا حماقات , الوطن هو ان تكون موجودا عزيزي , مثل هذه - قلب
في يده كرة من الكريستال - اما ان تكون بحوذتك او لا تكون , جنرالا لا
يرى العالم سوى من ثقب مخيط تسده تراكمات هموم موروثة لاتنتمي له , ذكريات
دونها على اوراق صغيرة حتى لا ينساها ثم اخفاها في مكان لا يعرفه سواه ثم
لم تعد ذات معنى , عزف منفرد من الحكي يرسم شخصا واحدا , يعادي الجميع ,
بدءا من الاطفال مرورا بكل معارضيه المزعجين , وزراءه المتملقين , اصدقاءه
المقربين , شبيهه الذي كان يحل محله في حفلات لا يطيقها واحجار اساس
لمشاريع لن تتم وجولات لا طائل من وراءها سوى التصوير , وانتهاءا بالكرسي
الباباوي , صعودا للسماء ليعادي الله ذاته ويقف ليقول عاش انا .
لا اشخاص سواه او من يذكرهم بنفسه
امه
بنثديون الفريدو أم حياته , مربية الطيور التي صارت تضعه في مواقف بالغة
الحرج كأن تقول على الملأ لو انني اعرف ان ابني سيصير رئيسا لكنت ارسلته
للمدرسة , فأمر بنقلها لقصر الضاحية حتى قاربت على الموت فنقلها لقصره مع
طيورها ليطببها بنفسه ثم يلفق لها موتا اسطوريا ويعلنها قديسة بمرسوم .
صديقه
ضابط المدفعية وزير الدفاع الفاني الوحيد المسموح له بالفوز عليه في لعبة
الدومينو والذي انتهى به الحال متبلا ومشويا بالفرن ليتناول لحمه رفاق
مؤامرته - المزعومة - بالامر القهري , هنيئا تفضلوا سادتي
ملكة
جمال الفقراء التي تم ازالة حي كامل من حول بيتها ليتمكن من زيارتها يوميا
بلا مضايقات وتم العبث بالمجموعة الشمسية ليلفت انتباهها ثم اختفت في ظروف
غامضة تاركة له اختلالا في وظائف اخرى للقلب .
زوجته الشرعية الوحيدة التي علمته القراءة والكتابة ورزق منها بإبنه الوحيد فكانت تخرج للتسوق وتقول ارسلوا الفواتير للحكومة .
شبيهه
الذي صارحه للمرة الاولى قبل ان يموت بالسم - لانه تجرأ في احدى الامسيات
وفاز عليه في لعبة الدومينو - بأن هؤلاء الذين يتغنون باسمك وينادون بك
سيدا للخسوف والكسوف والزلازل والسنوات الكبيسة واخطاء الرب الاخرى هم في
الحقيقة لا يحبونك على الاطلاق حتى شعبك لايحبك , استغل موتي يا جنرال ومت
انت ايضا .
وهو
ما يحدث على مدار الرواية كلازمة غنائية ينتهي بها كل فصل , ان يموت
الجنرال او ان يكتشفوا جثته على ذات الوضعية التي تنبأت بها العرافة التي
حددت مصير كل مقربيه ثم لقيت حتفها على يد حارسه الشخصي , فيبدأ بعدها بعث
جديد وسط ذهول الجموع الذين تخلى عنهم اليقين وما عادوا يعرفون له عمرا او
شكلا , فيقوم من موته ليمسك بتلابيب سلطته الابدية ويمنح البرصى والمشلولين
الذين يملأون حديقة قصره ملح العافية فيشفون , ثم يرمي بخطاياه على جهله
بأفعال الاخرين ويعاقبهم بالاعدام ويصطفي غيرهم ,
اذا
فليعود كل المنفيين , يعودوا جميعا للوطن , ماعدا الكُتاب فهؤلاء قوم لا
ترجى منهم منفعة , ماذا عن الاطفال يا جنرال , اي اطفال , الاطفال
المستخدمين في قرعة اليانصيب المزيفة التي تفوز بها وحدك , لقد صار عددهم
يفوق ألفي طفل , نحتجزهم حتى لا يفشى سر القرعة , اها الاطفال , بلا ترهات ,
اترين يا امي بنثديون الفريدو يا ام شقائي , لفقوا لي الادلة حتى يظهر
انني ارسلت الفي طفل الى وسط البحر بشحنة متفجرات واغرقتهم , سينالون
عقابهم يا اماه بعد ان امنحهم وسام الواجب ,
يعلن
الحرب على كل المؤسسات الدينية ويأمر بطردهم من البلاد عرايا ثم يصطفي من
بين الراهبات زوجة تصبح ام ولده الوحيد قبل ان تمزقهم الكلاب في احد
الاسواق وينصرف وراء الفاعلين سنين طوال ينفق فيها اموال طائلة لقاتل اجير
قبل ان ينقلب عليه ويقتله ويظهر للشعب بثوب المخلص ,
اجل يا رفاق لم يكن الجنرال يعلم بكل هذا ,
الديون يا جنرال
لم يبق في خزانة الدولة غير اموالك الطائلة ,
لايوجد مانبيعه سوى البحر , بلا حماقات , ثم يبيع البحر قطعا مرقمة ,
ثم
ينصرف عن هذا كله نحو الجريدة التي تُطبع خصيصا بأخبار سعيدة فقط ليقرأها
والقنوات التي تبث برامجا له وحده , اي سخافات هذه , لماذا يموت البطل في
هذا الفيلم , عدلوه اذا , فيعدل , الحمى الصفراء تجتاح البلاد يا جنرال ,
بلا حماقات , ثم ينصرف ليشاهد نهاياته السعيدة التي اوصى بها , الطاعون
يأكل شعبنا جنرال وما عاد هناك مكان للجثث , بلا حماقات , يقول لايوجد
طاعون ياحمقى الفقراء يحصلون على موت مجاني ولا شيء سواه لو صار للبراز
ثمنا - يوما ما - فسيولد هؤلاء بلا مؤخرات , ثم يأمر الا يدخل عليه أحد حتى
لا تصيبه العدوى .
*****
يا
مركيز العظيم , يا سيد الرواة , كيف ابدلت قلمي بذاك الشكل العجيب , أنا
ياسيدي لا اكتب مقالاتي على هذا النحو مطلقا و انا لا ادري ان كان هناك شيء
كهذا , لكنني - بعد - لم اتخلص من غنائية الرواية , الرواية على طول
احداثها كتابة وزمنا عبارة عن ست فقرات لا اكثر , رواية كاملة في ست جمل
فقط , ياللجمال , لا فواصل لا علامات ترقيم لا استراحات لا مجال لتأخذ
انفاسك اللاهثة خلف الوصف الساحر , فماركيز لايصف وانما ينقل الواقع كما
تنقله مرآة مستوية , يحكي عن تفاصيل لا لزوم لها بطريقة تجحدها كلمة الروعة
قدرها فلا تزدك سوى مزيدا من التوريط , تبدأ الجملة في بداية الفصل فيحكي
الجنرال ثم ننتقل لذكرياته ثم لهواجسه ثم للواقع ثم لراو اخر ثم لاشخاص
نبتت من الفراغ فصار لها وجود مادي بمجرد ان تحدثوا ثم للجنرال ثم تتكرر
اللازمة في النهاية فلا سبيل لقطع القراءة الا في نهاية الفصل , اي وقوف في
اي موضع يهدد باعادة القراءة من بداية الجملة اي من بداية الفصل ,
وتستمر
المقطوعة حتى يحل ماركيز لغز هذا الدكتاتور الازلي , سيد سلطته الكلية في
نهاية الرواية عندما يفاجئه الموت الاخير ويحين خريفه الحقيقي عندما يمر
عابرا بالمرآة حاملا مصباحه فيرى انعكاسه جنرالا ثم جنرالان ثم اربعة عشر
جنرالا ,
اربعة
عشر جنرالا متعاقبين استخدموا صورة وافعال وافكار وحماقات وذكريات وحياة
شخص واحد حتى فاجأه الموت اخيرا في مملكة سأمه وحيدا لا يقبض على سلطته ,
لا يلبس بدلته الكتانية ولا يضع نياشينه ولا مهمازه الذهبي , ستموت الان
ياجنرال بضربة واحدة وينتهي زمن الابدية الهائل .
أحمد حلمي
البحيرة
9 / 11 / 2014