لماذا الأدب ؟
السؤال الذي اطلقه الاديب البيروفي ماريو فرجاس يوسا بعد حصوله على جائزة نوبل في العام 2010 وحاول الاجابة عنه في مقال بديع لايمكن مقاومة فتنته ,
أذكر منه بيت القصيدة الذي يستحق وضعه داخل إطار ذهبي
" إن مجتمع لا يقرأ أو مجتمع يرمي بالادب في سلة النقائص او الكماليات هو مجتمع همجي الروح ويخاطر بحريته كذلك ,
ﻻﺷﻲﺀ ﻳﺤﻤﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﻏﺒﺎﺀ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍﻟﺘﻌﺼﺐ ﻭﺍﻟﻔﺼﻞ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻟﻘﻮﻣﻲ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﺩﺏ ﺍﻟﻌﻈﻴم , انني اشعر بالشفقة تجاه أولئك الذين يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا الا يقرأوا , هم فقط لا تفوتهم المتعة التي تسببها القراءة فحسب لكنهم لايدركون أن الحياة الواقعية هي آخر ما يُكتشف ويُنور وان الحياة الوحيدة التي يمكن ان تعاش بكاملها هي التي يحيكها ويحكيها الأدب
"
هنا ينتهي كلام يوسا ,
لكن ابراهيم نصر الله - الذي يرى أن كل كتابة هي بمثابة معارضة للواقع حتى عندما نكتب قصيدة حب فإننا بذلك لانقيم وزنا لأي قوانين مجتمعية , لأننا إن أحببنا على طريقتنا فإننا نخالف ما يريدون لنا أن نكون عليه , نعارض أولئك الذين يحمون قتلة الحب بقوانينهم - انار لنا دربا اولى بالمسير , يقول :
" نكتب لأن حكايانا إن لم ندونها صارت ملكا لأعدائنا "
هذا ما جال بخاطري عندما قرأت روايته " قناديل ملك الجليل " الصادرة في العام 2012 .
ولأن ملك الجليل هذا كان مجهولا تماما بالنسبة لي - على عظم مكانته وحجمه - فإن حكايانا كانت ملكا لأعدائنا حتى بعد تدوينها .
واخيرا , هناك سبب ما يدفعني كل مرة ان أبدأ حكاياتي من المنتصف لابد وأن أعرف ماهيته أو أن أكف عن ذلك .
لنحكي من البداية اذا .
********************
ابراهيم نصر الله المولود في عَمّان - لأبوين فلسطينيين أُقتُلِعا من ارضهما ( قرية قرب القدس ) بعد نكسة 1948- بدأ مشروعه الادبي كشاعر تُمنع دواوينه من النشر ثم يفرج عنها مرارا دون اثر يذكر , لكن التحول الاكبر في حياته الادبية كان مع صدور روايته "براري الحمى" في مطلع الثمانينات والتي تم اختيارها كواحدة من أهم عشر أعمال روائية تتناول الوطن العربي من الداخل بحسب مجلة الجارديان البريطانية , لكن مشروعه الأكبر والذي لم يتخيل هو ذاته ما سيؤول اليه كان عندما بدأ في منتصف الثمانينات في تدوين التاريخ الفلسطيني الحديث تحت عنوان " الملهاة الفلسطينية "
بصدور روايته الثامنة في هذه السلسلة " قناديل ملك الجليل " فإن الملهاة الفلسطينية تغطي ما يقرب من 250 عام من تاريخ فلسطين بدءا من نهاية القرن السابع عشر ابان الحكم العثماني وحتى الانتفاضة الثانية .
الرواية محل حديثنا اليوم ملحمة تاريخية تحكي بحسب تقديم نصرالله ذاته لروايته عن رجل افنى عمره في انبل هدف يمكن لرجل أن يسعى لتحقيقه , انه بناء وطن مستقل , بمجرد قراءة الجملة السابقة تداعت كل بقايا التاريخ في ذهني وانهارت وجرفت كل شيء في طريقها تاركة اسماء فقط , سيل من الاسماء , احاول بلا جدوى ان استدعي ذلك العظيم الذي - لابد - وانه في منزلة صلاح الدين وشهرته مثلا , لكن المفاجأة كانت في السطر التالي ان الشيخ ظاهر العُمَر الزيداني مجهول تماما ولم يمر اسمه امامي من قبل ولو على سبيل الصدفة , والحقيقة ان الحسرة ظلت تتنامى على طول الرواية كلما تزايدت عظمة انجازاته .
****************
إن كنت ستقرأ الملهاة فالبداية من هنا ,
لكن ما لفت نظري حقا هو كيف كتبت ملحمة روائية تاريخية عظيمة كتلك بعد عمل عظيم مثل " زمن الخيول البيضاء " , بل مايثير دهشتي حقا , كيف يكتب من الأساس , زمن الخيول البيضاء من الأعمال التي يوضع القلم بجورها فلا يرفع مجددا , لكن التجربة هنا مدهشة خاصة لو علمت أنه كتب ولا حائط في ظهره , لا شيء على الاطلاق ,
كل ما هنالك مجرد وريقات متناثرة عن ذلك الرجل الغامض عظيم الاثر , كأن التاريخ تواطأ ليمحو خطاه ويهدم شاهد قبره ويسويه بالارض .
ولأن البطولات كشمس الضحى لا تستطيع مواراتها مهما بالغت في ذلك فالشيخ ظاهر الذي تحدى الدولة العثمانية ووزراءها لما يقرب من سبعين عاما لم تمت بطولاته .
لكن الشيخ ظاهر له رأي آخر فيما يخص البطولات , يقول : إن اسوأ فكرة خطرت للانسان هي ان يخوض حربا كي يصبح بطلا , بإمكان الانسان ان يصبح بطلا في ألف ميدان آخر لكن ليس ف الحرب , هذه الحرب فرضت علينا لا لنخرج منها ابطالا انما لنخرج منها بشرا .
حين ننهي حصارنا ونبني مدننا بأمان سيصير كل منا بطلا حقيقيا .
*********************
في ٥٥٥ صفحة يختلط الروائي بالمؤرخ في هذه الرائعة ,لو انك لا تعرف ان ابراهيم نصر الله لم تطأ قدماه ارض فلسطين قط , لو انك لاتعرف انه ابن مخيم الوحدات الاردنية لظننت انه لازم الشيخ ظاهر في كل غزواته ,
وريقات قليلة حولها الروائي القدير الى صفحات من التاريخ ربما يظن التاريخ ذاته انها سقطت منه سهوا ,
كيف نسج ابراهيم نصرالله كل تلك الشخصيات والاحداث والوقائع والاماكن حول لاشيء تقريبا ,
ليس هذا فحسب , بل كيف اقنعك بها ,
هناك كاميرا صغيرة محمولة بيد راوِِ لا تشعر بوجوده قط يتنقل بين المكان والزمان ايضا ,
هو لا يحكي , هو يرى لك , انت في قلب المكان , ترى وتسمع ,
بعد ان تنتهي الرواية تصبح فلسطين ومدنها وقراها واناسها واسواقها ومزارعها وبساتينها تتشرب كل خلاياك ,
صف لي بعد ان تغلق الرواية كيف انك لم تذهب الى طبرية ؟
وأي طبرية
لماذا تدمع عيني الآن مع ذكر طبرية ؟!
ربما لأنني تذكرت ليلة ميلاد ظاهر ,
لماذا تتبعثر خيوط الحكاية مني كلما حاولت لملمتها ؟
لنحكي من البداية مرة أخرى .
****************
هناك مشهد فنتازي في بداية الرواية ستبتلعه لأنك تريده ان يسير بذات الطريقة ,
المؤلف يعرف ان التاريخ المسطح الممل مصقول الحواف لابد وأن يتحول لشيء حاد لايكتب على الورق فقط بل يحفر في الصخر كذلك , لذا تحولت كل شخصياته واحداثه ووقائعه لذات الاشياء الحادة التي تفسح لنفسها عنوة مكانا داخل الزمان والمكان , لذا تجد الشيخ عمر الزيداني شاهرا سيفه يحارب الموت الذي لا يراه حتى يبعده عن ولده الذي التقى بأمه كي يتم وداعها في لحظة ميلاده ,
يصرخ الشيخ في الموت الذي يعرف انه لم يغادر الدار بعد وهو يوجه طعنة للفراغ : اخرج يا جبان وواجهني حتى تكل ذراعاه العاريتان ويغرس سيفه في الارض امامه ويجلس واضعا رأسه بين كفيه .
ثم يستدعي نصرالله الاسطورة للواقع لتقتنع تماما ان ظاهر رضع من لبن الجياد لينجو من الموت , مع كل ما تصبغه الاسطورة من صبغات على حياته وكل ما تلقيه من خلفيات قبل حتى ان تطأ قدمه ارض المعارك .
مستقبلا سيقول ظاهر ان حليمة الفرس الاصيلة هي أمه , فيما بعد سيغير ظاهر على قبيلة ليسترد فرسا سلب منه لأنها اخته في الرضاعة .
ظاهر الذي كان يعرف انه جاء لهدف ما اكبر من ان يعيش حياة عادية القته لعبة القناديل في معمعة بناء الاوطان مصادفة , لكن الاقدار لا تتبع الصدف ابدا ,
من قال ان الاوطان الحرة تبنى بالصدف او بالنوايا الحسنة .
هو يلخص الامر ببساطة فيقول
لا تحدثني عن ايمانك
حدثني ماذا تفعل به
لا تحدثني عن ايمانك
حدثني ماذا تفعل به
*****************
لن أحكي لكم عن عذوبة اللغة , لكن يكفي أن يكتب شاعر رواية من خمسمائة صفحة , ماذا تتوقعون اذا ,
هناك كل شيء بمقدار , ليس هناك لفظا ذو ايحاء زائد أو معنى نقصه اللفظ قدره ,
هذا بالاضافة للموسيقى الخفية التي لايمكن اغفالها بين السطور , انت تتمايل طربا مع كل سطر .
اللغة هنا تكمل الصورة , لايمكن ان تصف كل هذا الجمال , كل هذه الروعة , كل هذا التاريخ لايكتب بحروف عادية ,
حتى التراب هناك كان يقطر حكمة ,
ابراهيم نصرالله كان يدرك جيدا كيف يشيد دعائم التاريخ العظيم فلا ينهار ابدا مهما قلبت صفحاته , لذا كان يفعل هذا بكل كيانه , فانتقل لكل كيانك .
************************
" هناك قناديل ياشيخ لا تطفأ وقنديلك منها , بعد كل ما فعلته اتراك تعتقد ان احدا يستطيع اطفاء قنديلك , انت كل هؤلاء , صحيح ان لا احد يجرؤ اليوم على الجلوس لتدوين ما فعلته لانهم يخافون الدولة التي لا تخاف شيئا اكثر من الحبر لكن بعد عام او عشرة او خمسين سيتغير كل هذا ويتقد قنديلك وتتقد كل القناديل التي اطفأت دفعة واحدة ياشيخ "
كانت اللعبة التي ارتضوها حكما من البداية بعد موت الشيخ عمر هي ان يجلس الاربعة ابناء قبالة قناديلهم المشتعلة حتى ينطفئ احدها فيكون صاحبه صاحب العمر الاقصر هو من سيخلف والده ويرث المخاطر ,
وحملها ظاهر صاحب الستة عشر عاما فصار الشيخ ظاهر .
بعد اعوام قليلة صارت طبرية قلعة منيعة تستعصي على وزراء الدولة العثمانية وظلت القناديل تحكم كل ردود الافعال فيما بعد .
*******************
حينما قال له ولده متى ستموت يا ابي حتى اصبح متسلما مثلك كان يعرف ان ايامه القادمة لن تكون مشرقة كما تمنى , بعد أعوام عندما صارت حدود دولة ظاهر تضم معظم بلدان فلسطين وساحل الشام وقناديله تضيء قلوب المدن وقلوب اعداءه رعبا كان ابناءه يطالبون بأن تقسم البلاد عليهم , فما كان منه الا ان قال لهم ومتى ملكت حياة الناس حتى اقسمها عليكم , ما ثبت بالوثائق ان ظاهر الذي عاش لما بعد الثمانين وعاشت دولته مايقرب من ستين عاما هدم حلمه بخيانة اقرب اقرباءه .
لكن قناديله بقيت عبر الزمان والمكان تضيء الطريق وتقول كيف ضاع كل شيء , تقول من اين اتت الطعنات ,
الرواية ملحمة تاريخية بالغة الرقي لا يخرج منها قارئها كما دخلها ابدا , هناك اشياء كثيرة تبدلت ايسرها تضاريس التاريخ التي غفلت عنه طويلا ,
احب ان اختم بمقطع آخر من مقال يوسا العظيم لأنه يقول ما أود ان اقوله تماما :
"هذا الرابط الأخوي الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك وبالتالي فهو يمحي الحواجز التاريخية .
الادب ينقلنا الى الماضي , الى من كان في العصور الماضية قد خطط , استمتع , وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا . تلك النصوص التي تجعلنا ايضا نستمتع ونحلم , الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو اعظم انجاز للثقافة ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل الا الادب "
هل سيسأل احدكم عن ماهية الادب مجددا او يراه رفاهية ؟
لا اظن
دمتم في حفظ الله
أحمد حلمي
البحيرة
الاول من سبتمبر 2015