0 التعليقات

فلا اوصيك الا فرارا

وصل كتابك , فصادفني قريب العهد بانطلاق من عنت الفراق , ووافقني مستريح الاعضاء والجوانح من جوى الاشتياق , فإن الدهر جرى على حكمه المعروف في تبديل الاحوال , وسار على نهجه المألوف في تغيير الاشكال , وأعتقني منك عتقا لا تستحق بعده ولاء , وأبرأني منك براءة لا تستوجب دركا ولا استثناء , ونزع عن عيني غيابات ما القاه الهوى دون بصري , فلم ار الا منكرا , ولم اجد الا مستنكرا , فوليت منهم فرارا , وملئت منهم رعبا , فاذهب فقد القيت حبلك على غاربك , ورددت اليك ذمم عهدك .



يبدو كلاما كبيرا وعميقا لا يناسب سطحية مقالي التافه , هو جزء مقتطع من خطاب لابن العميد , لكن هذا هو ما قفز الى ذهني بمجرد ان قررت ان اقاطع السياسة بما يوافق رغبة القراء ويلاقي هوى في نفسي , حاولت كثيرا اعطاء ما اكتب شيئا من عدم الاهمية , وطلبت الا تعولوا عليه كثيرا بل وقل مرة انني مهرج , كتبت اكثر من مرة ان هذه ليست صفحة بريد القراء ولا فقرة ما يطلبه المستمعون , وهي ان كانت قلة ذوق حقيقية فهي حقيقة لابد ان تعترفوا بها , لكن السحر انقلب على الساحر , وطاه السم تجرع منه حد الثمالة وتشربت انسجته حتى ما عاد قادرا على تناول المزيد , فبدا الامر كما لو انني سأموت بجرعة زائدة لو كتبت مقالا سياسيا آخر .

المقطع في بداية المقال كان خطابا من ابن العميد لصديقه وهو ما لا يتوافق مع حالتي هنا فالواقع اننا ما كنا - انا والسياسة - اصدقاء يوما ما, بل كانت علاقتنا قائمة على المنفعة من طرف واحد .

انا اللي كنت بستنفع طبعا .

على مدار ستة وعشرون اسبوع كانت الاحداث السياسية محركا اساسيا لكتاباتي , فأنا ادين لها بشكل ما كونها سبب التزامي بالكتابة الاسبوعية , بالاضافة الى انني كتبت بانتظام في اكثر الاوقات حرجا وقمت بتوثيق احداث لن يذهب اليها عقل اي قارئ مستقبلا , لكن قرار التوقف صار ضرورة مرحلية فقد اصبح المارد طليقا خارج قمقمه واصبحت له حياة مستقلة وصار قادرا على ايذاء صاحبه , بعد قراءة مقال الجمعة الماضية لمت نفسي على عدم اضافة عبارة تحذيرية في بدايته تقول " احترس المقال فيه سم قاتل "

الحقيقة ان هذه العبارة تنطبق على معظم مقالاتي مؤخرا .

عزيزتي السياسة

بعد التحية ,

هذا فراق بيني وبينك ,

(العمر مش بعزقة)

بالاضافة ان قواعد اللعبة اصبحت غير عادلة ولم تعد تناسب قلبي الضعيف ولا مرارتي العليلة ولا شرايين مخي المهترئة ولا صحتي النفسية .

لكن للأمر دروسا مستفادة على كل حال فليس بكل هذا السوء فمتابعة الصراعات السياسية والاحتكاك المباشر ابرز امامي عدة نقاط سأموت كمدا ان لم احكها قبل التوقف , ومعظمها اشارات تحذيرية فول منها فرار حفاطا على عمرك من القصف .



اولا



قناعات الانسان مثل ادوية الامراض المزمنة لذا لابد من مراجعتها من وقت لآخر كلما سمح لك الوقت بذلك فقد يثبت عدم جدواها ,

اذا اصتدمت بجمود الفكر فلا اوصيك إلا فرارا



ثانيا



الحوار الهادف عبارة عن خيط متين غير قابل للقطع يمسك به طرفا النقاش محاولا كل منهما جذب الآخر لناحيته واقناعه بمنطقه ,

اذا اعطيت نظيرك طرف الخيط وذهبت للجهة الاخرى ثم شرعت في الجذب حتى انتهى الخيط دون ان يأتي هو معه فاعلم انه امسك بطرف خيط آخر وجذبه ايضا حتى نهايته , واعلم ايضا انكما لن تمسكا بطرف نفس الخيط مهما يكن من امر , فلا اوصيك الا فرارا .



ثالثا



برغم كل شئ وبرغم اتفاقنا ان الثورة - حرم السيد ثور كما اتفقنا مسبقا - كانت ضرورة حتمية , وبرغم ان الثورة تجربة ثرية اضافت اعمارا لعمر من عاصرها وخبرات لمن لمسها لم يعطها سواه , الا اننا لابد وان نعترف اننا كنا نعيش حالة من الفراغ اللذيذ ,والاحساس بعدم المبالاة تجاه سوء الاوضاع , كنا على الاقل نعرف انها بلدهم وليس لنا فيها ناقة ولا بعير , فلم نكن نشغل بالنا بحوادث اكثر جسامة مما يحدث الان او كانت الامور اخف وقعا على نفوسنا القرار المصيري الاعظم الذي اتخذته قبل الثورة كان مقاطعة مباريات المنتخب بعد الهزيمة من امريكا في كأس العالم للقارات ,

(مصيري مصيري يعني مش هزار )



اعتقد ان الثورة - مجازا - اعطتنا الكثير جدا من الامل الخادع في انها صارت بلدنا ولنا الحق - وهذا حقك بالمناسبة - ان نأمل في الافضل مما حدا بنا نحو الدفاع باستماتة عن هذا المكتسب العظيم , وأدى بالتالي الى مزيد من الانغماس في السياسة ووجع القلب , اذا وجدت نفسك مقبلا على ازمات نفسية او اعتلالات جسدية تحت تأثير ذاك التغير المتعلق بتبديل المفاهيم ( بلدنا - بلدهم ) فعد الى فراغك وتفاهاتك السابقة ولا اوصيك ونفسي الا فرارا



رابعا



باسم يوسف لا يمزح ان كنت تجد كلامه مضحكا او كنت تجد برنامجه كوميديا فأنت تعاني مشكلة عظيمة في الادراك , لو نظرت خلف الكلام لوجدت الكثير من الاشياء المفجعة , ولو جربت ان تلوك كلامه قليلا قبل ابتلاعه لذقت الكثير من المرارة , والدليل ان خصومه يتعاملون معه بكل هذا التحفظ ويعطونه كل تلك الاهمية , تأمل معي كمية القضايا المرفوعة ضده , هذا ليس مهرجا كما تظنون , هذا جراح قلب يعرف جيدا ما يفعله , اذا كنت تعاني من انعكاسات ما بعد الثورة فلا اوصيك منه الا فرارا .



خامسا



آن الاوان ان افعل ما احبه وأجيده فعلا آن لي ان اكتب ما خلقت لأن اكتبه لا ما اجبرتني عليه الظروف ولتذهب السياسة للجحيم انها مازالت بلدهم ياعم فقط الضمير ( هم ) اصبح يعود على حفنة اخرى من البشر لكن الواقع لم يتغير , اذا كان لديك ملاذا آمنا مثلي فلا اوصيك الا فرارا



********************************

هذا اول مقال في العام الجديد

كل عام وانتم بخير

جعله الله عوضا لكم عن سابقه

دمتم في حفظ الله



.



.



.



أحمد حلمي



أسيوط



4 / 1 / 2013